يروق لبعض الفنانين أن يكتسب لقبا آخر يُضاف إلى لقب “فنان” كأن يلجأ البعض إلى الكتابة مثلا فيكون كاتبا وفنانا في الوقت نفسه. تعدّد المواهب حدث جذّاب بقدر ما هو مفيد. المصري محمد أبوالنجا هو من ذلك النوع. فهو لا يمانع من أن يُلقب بـ”صانع الورق” ولكن ورقه من نوع خاص وشخصي. فذلك الورق صار جزءا من صناعة اللوحة لديه، بل إن أسلوبه الشخصي في الرسم تأثر كثيرا بالتقنيات التي يقترحها عليه الورق المصنع يدويا. أبوالنجا فنان يتفاعل بعمق مع المواد التي يستعملها. تعطيه ويعطيها. المخطوطة هي نقطة البدء كانت علاقته بالورق قد نشأت من خلال دراسته للمخطوطات العربية القديمة. درس في مرحلة من حياته “رسوم يحيى بن محمود الواسطي التي زيّنت مقامات الحريري” فكانت تلك بداية تعلقه بفن المخطوطة. فصار ينظر إلى ذلك الفن من جهة استقلاله، لذلك اتجه إلى أن يصنع مخطوطات، يبتكر موضوعاتها من خلال استلهام تفاصيل الحياة المعاصرة. مخطوطات معاصرة. رحلته مع الورق فتحت أمامه أبواب خيال مختلفة. خيال قاده إلى التعرف على الطبيعة باعتبارها مصدر الخامات التي يستعملها الرسام وفي الوقت نفسه جعله منفتحا على أسرار الفن المصري القديم بكل عبقرية إنجازاته الجمالية. معرض أبوالنجا “القاهرة 11” يتوقف عند العام الذي قامت فيه ثورة يناير متأثرا بما أحدثته من تحول جوهري داخل الروح المصرية. ولم تكن وجوه الثورة إلا خلاصة ذلك المعرض ورق البردي المصنع يدويا والأصباغ المستخرجة من الصخور والنباتات إضافة إلى التراب باعتباره خامة مستقلة. كل ذلك لم يكن بمعزل عن اكتساب طاقة تعبيرية من البيئة الثقافية المحيطة وهي بيئة غنية بالإلهام لما تنطوي عليه من أبعاد حضارية لا تقف عند مرحلة بعينها. تعلّم أبوالنجا من اليابانيين كيف يمكن أن يضمّ الورق إلى مفردات الحياة اليومية ويكون جزءا من قاموس الصنيع الفني. “صانع الورق” كان في حقيقته باحثا في أعماق الورق عن أسرار جمالية لا يراها أحد سواه، فكان يستخرجها لتكون جزءا من عالمه. لذلك يمكنني القول إن الورق لم يكن بالنسبة إليه مجرّد سطح تُرسم عليه الأشكال وتُصبّ عليه الأصباغ. وكان الورق كريما في هباته الجمالية التي تتوزع بين الصورة والفكرة. بين خيال الورق وخيال يديه أبوالنجا ينظر إلى مزاج الورق باعتباره مزاجه الشخصي أبوالنجا ينظر إلى مزاج الورق باعتباره مزاجه الشخصي ولد أبوالنجا في مدينة طنطا بمحافظة الغربية عام 1960. تخرّج من قسم التصوير بكلية الفنون الجميلة في جامعة الإسكندرية، ثم حصل على الماجستير والدكتوراه من الجامعة نفسها. وقام بتدريس مادة الرسم في كلية التربية النوعية ثم انتقل إلى التدريس في الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والمعهد العالي للفنون التطبيقية. أقام معرضه الشخصي الأول عام 1986. بعده أقام أكثر من عشرين معرضا بين مصر واليابان والأردن وقطر، وشارك في عشرات المعارض الجماعية داخل مصر وخارجها كانت مشاركته في بينالي فينيسيا عام 1990 من أهمها، كما عمل في المجال المسرحي مصمّما للديكور. أخذته خرافة الورق بسحرها حتى بات لا يفرّق بين ما ينتجه مستعينا بخيال الورق وما تنتجه يداه وهما تطاردان خيالهما. إنه ينظر إلى مزاج الورق باعتباره مزاجه الشخصي. فهو يقيم في أعماق المادة التي يعمل عليها. كل حواراته مع المجهول تنبعث من مكان لا يراه بشكل مباشر. مكان لا يُرى حتى بعد الرسم. وهو بذلك إنما يخترع مهمّة جديدة للرسام. أما حين اهتمّ بالرسوم الشخصية “البورتريه” فلم يعنِه الشبهُ ولا التطابق الواقعي بل كان يبحث عن المعاني التي يتركها تأثير الزمن على الوجوه التي يمكنها أن تكون وجها واحدا لكنها ظهرت في أزمنة مختلفة ومتباعدة. وكان خيال الورق عاملا رئيسا ساعد الرسام على الوصول إلى نتائج مهمّة على مستوى رسم البورتريه. كان ذلك تمهيدا لانتقاله إلى موضوعه الأثير “وجوه الثورة”. لقد تأثر الرسام بالحدث الذي سيكون من شأنه أن يغير حياة المصريين، ألا وهو ثورة يناير 2011 التي أدّت إلى انقلاب عظيم في علاقة المصريين بالسلطة حين تمكن الشعب من إسقاط النظام السياسي. لم تفاجئه الثورة ولم تصدمه بقدر ما اكتشف من خلال تفاعله معها قدرة على التعبير كانت كامنة في أعماقه. القاهرة مثلما أعاد اكتشافها فنان يخترع مهمة جديدة للرسام فنان يخترع مهمة جديدة للرسام عام 2012 أقام أبوالنجا في الدوحة معرضا حمل عنوان “القاهرة 11” اهتمّ فيه بالبورتريه من أخناتون إلى وجوه الثورة. وهناك مَن يقارن بين ذلك المعرض ورواية نجيب محفوظ “القاهرة 30” التي تمّ تحويلها إلى فيلم سينمائي بالاسم نفسه. الواضح من عنوان المعرض أن الفنان يتوقف عند العام الذي قامت فيه ثورة يناير متأثرا بما أحدثته من تحوّل جوهري داخل الروح المصرية. ولم تكن وجوه الثورة إلا خلاصة ذلك المعرض الذي اعتبره الفنان نقطة فاصلة في سيرته الفنية. ربما بالغ في ذلك الاعتبار غير أنه ينظر من الزاوية التي تعنيه شخصيا وهي النظرة الأكثر صدقا. لقد صوّر أبوالنجا لحظة الثورة كما لو أنها مرّت على الجدار وتركت أثرا منها. أثرا لغويا وبصريا. فعمل على أن تكون لوحاتُه الحاضنةَ التي تستقبل شعارات الثورة وصور الشهداء والملصقات. شيء من رسوم الجدران انتقل إلى لوحاته لكن بجمالية عالية. لقد رغب الفنان في أن يعوّض غيابه لحظة قيام الثورة من خلال استلهام زخمها الروحي بحيث صارت جماليات الثورة هي الأساس في بناء لوحاته. يمكنه من خلال ذلك المعرض أن يقول “لقد كنت هناك”. لقد استعاد أبوالنجا حين قامت الثورة مصر التي يعرفها لكن بصيغة شبابية، وهو ما دفعه إلى استحضار المفردات اللغوية والبصرية التي كانت جزءا من ثقافته التي حملها معه إلى غربته، وصار يراها مجسدة أمامه من خلال حيوية هي في طريقها إلى أن تصنع المستقبل. كان ذلك المعرض لحظة تحوّل في مسيرة الفنان.
مشاركة :