اتسم أداء الاقتصادات الناشئة خلال العقد الماضي بتحقيق نتائج إيجابية، إلا أن الأداء العام كان أقل من أداء الأسواق المتقدمة، خاصة الأسهم الأمريكية بشكل ملحوظ، حيث ضربت جائحة كورونا جميع الأسواق الناشئة بلا استثناء، لكن تأثيرها لم يكن بالدرجة ذاتها من القوة والضرر في جميع الدول التي تنتمي إلى فئة الأسواق الصاعدة. وتباينت السبل التي اتخذتها حكومات الاقتصادات الناشئة للتعامل مع الأزمة، وبالطبع كانت نتيجة مقاومة الوباء متفاوتة، فبينما نجح البعض في خفض حدة الضرر الذي مني به نتيجة جائحة كورونا، فإن آخرين لم يحققوا الدرجة ذاتها من النجاح في مواجهة الفيروس. لكن منذ الإعلان في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي عن التوصل إلى مجموعة من اللقاحات المضادة للفيروس، بدأت الأسواق الناشئة في تحقيق أداء أفضل استعدادا للعودة إلى النشاط الاقتصادي الطبيعي، ومع تزايد الثقة بانتشار اللقاحات على نطاق أوسع بحلول النصف الثاني من العام الجاري، فإن التوقعات تبدو أكثر إيجابية بشأن النشاط الاقتصادي المستقبلي في الأسواق الصاعدة. ويقول لـ"الاقتصادية" وايت دين المحلل المالي، "إن العجز المالي الأمريكي غير المسبوق في وقت السلم، المقترن بتواصل سياسيات التحفيز المالي الضخمة، يضغط بقوة على الدولار الذي يتوقع أن يتراجع، وهو أمر مفيد لكثير من الاقتصادات الناشئة التي تحتاج إلى الحصول على رأس المال من الخارج". من هذا المنطلق، يعتقد وايت دين أنه مع استمرار التعافي الاقتصادي العام يتوقع أن يتحسن أداء الأسواق الناشئة الأكثر تضررا من وباء كورونا بشكل ملحوظ هذا العام. لكنه يحذر أيضا من أن عام 2021 قد يكون عام وقوع الاقتصادات الصاعدة في فخ المديونية، نتيجة إغراء أسعار الفائدة المتدنية على المستوى الدولي، ما يزيد من إمكانية اعتمادها في نهجها التنموي على القروض الخارجية، التي سيكون من العسير سدادها عند انتعاش الاقتصاد العالمي، وارتفاع معدلات التضخم، فحينها لن يكون أمام البنوك المركزية غير اللجوء إلى الحل التقليدي بالتصدي للتضخم عبر رفع أسعار الفائدة مجددا. وبالفعل فإن انخفاض الدولار يعد في كثير من الأحيان خبرا سارا لكثير من الاقتصادات الصاعدة، فخلال العقدين الماضيين، وعندما ضعف الدولار بنسبة 5 في المائة على الأقل، كسبت أسهم الأسواق الناشئة في المتوسط 19 في المائة مقيمة بالدولار. مجموعة أخرى من الخبراء تواصل تفاؤلها بشأن مستقبل الاقتصادات هذا العام والأعوام الثلاثة المقبلة على أقل تقدير، نظرا إلى اعتماد عديد من الأسواق الناشئة في نموها الاقتصادي وبشكل كبير على سياسة التصدير إلى الخارج، ومع انتعاش الاقتصاد العالمي، خاصة في الدول المتقدمة ينبغي أن ترتفع قيمة صادرات تلك الدول وتزداد معها قدرتها على سداد ما عليها من ديون. وفي هذا السياق، تؤكد لـ"الاقتصادية" الدكتورة إيبي رالسون أستاذة التنمية الاقتصادية في جامعة شيفيلد أن دولا مثل تايلند والمكسيك على سبيل المثال يأتي 23 و16 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي على التوالي من القطاع السياحي، ومع انتعاش السياحة وعودتها إلى أوضاع عام 2019 نتيجة اللقاحات يمكن أن تنتعش اقتصادات تلك الدول بشدة. ويبدو من الأرقام المتاحة الآن أن هناك شعورا عاما من قبل المستثمرين بأن الاقتصادات الناشئة ستتحول في عام 2021 إلى أحد الأقطاب الجاذبة لرؤوس الأموال الأجنبية بعد الأوضاع المأساوية التي حلت بها العام الماضي، فبعد نزوح قياسي لرؤوس الأموال الأجنبية من الاقتصادات الصاعدة قدر بنحو 90 مليار دولار في شهر آذار (مارس) الماضي نتيجة تفشي الوباء، فإن المستثمرين بدأوا في العودة إلى أسواق الأسهم والسندات، التي ارتفعت بنسبة 9 في المائة منذ بداية العام الجاري لتتفوق على نظيرتها في الأسواق المتقدمة التي لم ترتفع إلا بنسبة 2.7 في المائة. ويتعزز هذا الاتجاه بما توقعه صندوق النقد الدولي من أن الأسواق الناشئة ستنمو بنسبة 6 في المائة هذا العام متفوقة بذلك على الاقتصادات المتقدمة بما يزيد قليلا على 2 في المائة. ولا شك أن البحث عن عائد مرتفع هو المحرك الأول للجاذبية التي تتمتع بها الأسواق الناشئة حاليا والمتوقع استمرارها لبعض الوقت، خاصة في ظل ما يعده الخبراء استعادة الاقتصاد الصيني عافيته التي تراجعت بعض الشيء العام الماضي نتيجة هجمة كورونا وتفشي الوباء، إذ يتوقع أن يحتل الاقتصاد الصيني المرتبة الأولى عالميا هذا العام من حيث معدل النمو، وكانت التوقعات السابقة تشير إلى احتلال الهند تلك المرتبة، إلا أن كثيرا من الشكوك يحيط بتلك التقديرات في ظل الأوضاع الصحية السيئة التي تواجهها الهند نتيجة تفشي الفيروس. لكن البروفسير إل. ك. راهول الاستشاري السابق في بنك إنجلترا، يرى أن الحديث عن أداء مميز للاقتصادات الناشئة في عام 2021 ربما يتصف بعمومية شديدة، إذ يعد المصطلح ذاته يتضمن عالما شديد الاتساع والتنوع، مبينا أن وضع الصين والهند في سلة واحدة تضم نظرائهما الأصغر حجما أمر غير عادل، ومن هذا المنطلق يرى أن الازدهار سينحصر في مجموعة من الاقتصادات الناشئة وليس جميعها. ويقول لـ"الاقتصادية"، "الأسواق الناشئة ليست متساوية، فسوق مثل الصين وأيرلندا لا يوجد بينهما سوى قليل من القواسم المشتركة، ومن المتوقع أن تختلف وجهة نظر الطرفين حيال التحديات الاقتصادية التي تواجهانها حتى إن كانت الصين وأيرلندا منتميتين إلى الاقتصادات الناشئة. وبصفة عامة آسيا تمثل الآن أكثر من 50 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ونحو 60 في المائة من النمو الاقتصادي العالمي، وهذا الوضع من المرجح أن يتحسن أكثر في الأعوام القليلة المقبلة، مدعوما بالكثافة السكانية الضخمة وما توجده من وفرة في الأيدي العاملة الرخيصة، والطلب الضخم". ويعتقد البروفيسور راهول أن الاقتصادات الآسيوية الناشئة هي التي ستشهد ازدهارا اقتصاديا هذا العام، بينما لا ينطبق ذلك على نظيرتها في أمريكا اللاتينية أو إفريقيا، وهذا من وجهة نظره سيعزز تدفقات الأصول المالية إلى الاقتصاد الآسيوي. ويشير إلى أن الاقتصاد الصيني سيقوم هذا العام بدوره التقليدي كقاطرة للاقتصادات الآسيوية الناشئة، بينما سيتراجع وضع الاقتصاد الهندي بعد أن فقد الإصلاح الهيكلي للاقتصاد الزخم الذي تمتع به في الأعوام الماضية، كما أن اقتصادات مثل تايوان وكوريا الجنوبية وفيتنام ستعد نماذج رائدة فيما يتعلق بمعدلات النمو المحققة هذا العام والأعوام الثلاثة المقبلة.
مشاركة :