عندما تدخل منزلاً لأول مرة في حياتك، تتطلع إلى الصور المعلقة على الجدران، تتأمل النوافذ والأسقف والسجاد، فجأة تتوقف عن التفكير حينما يخالجك شعور بأنك زرت البيت نفسه قبلاً، بل وتستطيع تحديد الطريق إلى حجرة النوم، التي من المؤكد أنك لم تدخلها سابقاً قط، وتعرف مكان غرفة الصالون دون إرشاد، ولا تحتاج إلى مساعدة مضيفك لتصل إليها بثقة نادرة. يحدث أحياناً أن تدخل في جدل مع زميل لك عُيّن مؤخراً في الشركة نفسها التي تعمل بها منذ سنوات، تسرح فجأة وتتوقف عن الكلام عندما تدرك أن بعضاً من بقايا ذلك الحديث لا يزال عالقاً بذاكرتك منذ زمن طويل، لا يتناسب وزمن قدوم زميلك إلى الشركة، وتستطيع التنبؤ بوجهة نظره، ولكنك لا تتسرع بالبوح له عما تستشفه خوفاً من تعرضك للإحراج إذا خاب ظنك، ولكنه لا يخيب. ولابد أنك سافرت إلى خارج حدود وطنك الأم لتلتقي بأشخاص من مختلف الثقافات، وعندما تلتقي أحدهم لأول مرة لتسأله عن عنوان أو وسيلة مواصلات، تشعر بأنك تعرفه حق المعرفة، وقبل أن يتحدث تدرك طبقة صوته وتعبيرات وجهه، ويثبت الواقع أنك على حق. ولا يعير بعض الناس هذه الظاهرة بالاً، حيث يسارع إلى وضعها في سلة المعلومات غير المهمة في الذاكرة، بينما يتنامى اهتمام البعض الآخر بها إلى درجة الهوس والمرض النفسي، لأنهم يستميتون في البحث عن زمن وظروف الواقعة الأولى التي استدعاها المخ، ولكنهم لن يستطيعوا، وربما يعبرون عن ذلك بعبارات محددة مثل: أنا واثق من ذلك تماماً، التقيته من قبل ولكن لا أذكر أين؟ ومتى؟. الظاهرة كما يصفها عالم النفس النمساوي الرائد سيجموند فرويد أمر خارق للطبيعة، بينما كان أول من عرفها من العلماء الفيلسوف الفرنسي إمِيل بُويَرْك، وهو من كتاب الروايات المعروفين، أطلق عليها مصطلح دِيْچا ڤو، التي تعني بالعربية شوهد من قبل. تحدث هذه الظاهرة بنسبة 70 % عند البشر ممن تتراوح أعمارهم بين الـ 17 إلى الـ 25 عاماً ومن المعروف أن كل المصابين بمرض الصرع تتكرر معهم هذه الظاهرة بكثرة، وخاصة بين نوبتي الصرع، لكن من المؤكد أنها ظاهرة تحدث لجميع الناس، وتشتمل على التفاصيل والكلمات والوجوه والأماكن والحركة، بحيث نشعر بأن هذا الشيء الذي يحدث أمامنا الآن حصل في السابق بكل تفاصيله، لكننا لا نستطيع تذكر متى؟ وأين؟، واستمرار الظاهرة في بعض الأحيان للحظات يتيح لنا معرفة ما يحدث خلال الثواني القليلة المقبلة كأننا نتذكر المستقبل القريب. واختلف العلماء في تحديد أسباب الظاهرة، حيث أرجع أطباء النفس من الفرنسيين السبب إلى وجود تجارب سابقة نشطة لا تزال عالقة بالذاكرة، ومصدرها الأحلام التي نراها خلال النوم، التي لا نستطيع تذكرها كلها عند استيقاظنا، ولكنها تختزن في هامش الشعور، وتستدعى عند المرور بمواقف مشابهة أو عند مقابلة أشخاص يقتربون في صفاتهم ممن التقوا بهم في أحلامهم، بينما يرى فريق آخر من علماء النفس أن سبب هذه الظاهرة يعود إلى شذوذ في الذاكرة طويلة المدى، التي تمد الشعور أو الحواس بمعلومات مضللة تفيد بتكرار الموقف، بينما الواقع عكس ذلك، واستدلوا على ذلك بعجز الشخص عن تذكر التفاصيل الواقعية (مثل الزمن والظرف والمكان الذي حدث فيه الموقف سابقاً)، حيث أن الترتيب المنطقي في عملية معالجة المعلومات التي يتبعها المخ يقتضي إدخال المعلومات إلى الذاكرة قبل مرورها على مراكز الإدراك العقلية، ليتم تحليلها والتعامل معها شأنها في ذلك شأن آلاف البيانات التي يتلقاها العقل يومياً من مصادر متنوعة. وانبرى علماء فرنسيون لتفسير الظاهرة على أسس عاطفية أكثر منها نفسية وعصبية، حيث أكدوا أن دِيْچا ڤو تحدث لأشخاص تجاه مواقف معينة من حياتهم، مروا بها مسبقاً وتمنوا تكرارها، وهنا يختلط عليهم الأمر عند حدوث مواقف مشابهة، إذ ربما سارعوا بالحكم على الموقفين بالتطابق رغم الاختلافات، وضرب هؤلاء مثلاً بالطفل الذي ينتظر عودة والده من العمل، حينما يسمع صوت محرك سيارة خارج المنزل يفترض مسبقاً وصول والده على غير الواقع، إلا أنهم فرقوا بينها وبين الهلاوس السمعية والبصرية. ظهر كذلك تفسير علمي آخر للظاهرة يتعلق بحاسة النظر، يؤكد أن إحدى العينين تسجل الحادثة أسرع قليلاً من العين الأخرى، فبعد لحظات قصيرة عندما تقع الحادثة، يُخيل لنا أننا رأينا هذا الموقف من قبل، لكن من عيوب هذه النظرية أنها لا تقدم تفسيراً لتداخل الحواس الأخرى في الوقائع، مثل السمع واللمس (كأن نشعر بأن أحداً من قبل ضرب الوجه على سبيل الدعابة)، كذلك من عيوب هذه النظرية حدوث الظاهرة عند أناس ربما لا يستخدموا إلا عيناً واحدة نتيجة إصابة مزمنة في إحدى العينين تمنع استخدامها، إلا أن تلك الفرضية أفادت العلماء في التوصل إلى كشف مهم يعلل الظاهرة بوجود عدم توافق زمني في تسجيل الأحداث بين نصفي الدماغ الأيمن والأيسر، ما يوحي للشخص بتكرار الحدث على غير الحقيقة. ويرى الباحث الإنجليزي فريدريك دبليو إن العقل اللاشعوري ـ أو الباطن ـ سجّل معلومات في مدة قريبة مع العقل الواعي، لذا يتوهّم الشخص أنّه مرّ بالتجربة. بينما ينسب محللون عدة الظاهرة إلى الخيال البسيط لدى الإنسان، وبعض الأطباء يعزون ذلك إلى خلل لحظي في الدماغ لمدة ثوان قليلة. حاول بعض العلماء إيجاد رابط بين الظاهرة وبعض الأمراض النفسية، كالفصام العقلي أوالقلق ولكنهم فشلوا، ليس هناك أي علاقة بين هذه الظاهرة وهذه الأمراض، فالعلاقة الأقوى وجدت بين تكرار حدوث الأمر مع مصابي مرض صرع الفص الصدغي في المخ، مما قاد بعض العلماء للتأكيد على أن الظاهرة نتاج لخلل في عملية تفريغ الشحنات الكهربائية في المخ. يشعر بعض الناس بـرعشة سريعة (قبيل النوم بلحظات)، يرجّح أنها تحدث خلال استعادة الذاكرة لأحداث اليوم قبل تخزينها في مكانها الذي تستقر فيه إلى الأبد، مما يسبب شعوراً خاطئاً بوقوع حدث جديد، بينما الواقع يؤكد أن الحدث قديم تجري أرشفته، والغريب في الأمر أن صلة قوية تجمع بين مصابي هذه الرعشة وإصابتهم بتكرار ظاهرة دِيْچا ڤو، ولكن أغلبها يكون صوتياً، حيث يُخيّل للشخص منهم أنه سمع هذا الصوت من قبل، بينما يميل علماء النفس التقليديون إلى تفسير رعشة ما قبل النوم بعدم التوافق بين الأعضاء المسؤولة عن دخولنا في النوم، وهي القلب والمخ والعضلات والأعصاب نتيجة وجود مثير يمنع إحداها من الاستسلام للنوم. والشبه بين المقدمات التي تحفّز الظاهرة، وتلك التي تحفّز بعض الذكريات في المخ تعد تفسيراً آخر لا يجب إهماله، أي أن بعض المشاعر الحالية تجلب لنا تفاصيل حوادث سابقة في الماضي، ما يقود لحدوث ظاهرة دِيْچا ڤو، هذا التفسير يتيح للعلماء تطوير العديد من الأبحاث التي من شأنها تحديد حالات دِيْچا ڤو، حسب الطلب لدراستها تحت ظروف علمية، بينما يعتقد بعض العلماء أن الظاهرة في مجملها تتعلق بوظيفة الإدراك المألوف في الذاكرة، وهناك من التفاسير ما يقول بأنها نتيجة معلومات تعلمناها من قبل، ولكننا نسيناها والآن استطعنا استرجاعها، فيُخيّل لنا بأننا نعيش الموقف في المرتين، حيث أن الذاكرة العقلية لا تلغي أي معلومة سجلتها حتى وإن نسيناها). أما آخر التفاسير وأغربها فيؤكد على أن دِيْچا ڤو، تعزى إلى سبب لا علاقة له بالذاكرة ولا الأدوية، ولكنها نتيجة فورية لاضطرابات كهربائية تصيب الدماغ خلال جزء يسير من الثانية، تختلط خلالها الوظائف المعلوماتية التي يجيد المخ القيام بها في اليوم الواحد ملايين المرات دون الوقوع في خطأ، وبرهنوا على ذلك بازدياد حدوث الظاهرة لدى المصابين بأمراض لها علاقة بارتفاع أو انخفاض معدلات كهرباء المخ، مثل مرضى الصرع والفصام وغيرها. غرف المخ يرى العلماء البريطانيون أن المخ مقسم إلى غرف مناطق وكل غرفة مسؤولة عن وظيفة، مثلاً الرؤية مركزها في مؤخرة الرأس، والسمع على الجوانب وهكذا. وما يحدث أنك عندما ترى شيئاً يترجمه الجزء الخاص بالرؤية ووظيفته ترجمة الإشارات إلى صورة فقط أما فهم هذه الصورة واستيعابها أو تذكرها إذا كانت مألوفة فيكون في جزء آخر يسمى مركز الإدراك، وفي هذه الظاهرة يحدث تأخر بين العمليتين وتمر برهة من الوقت تدخل فيها الصورة إلى مركز الذاكرة قبل مركز الإدراك ثم تذهب الصورة إليه لاحقاً فيظن المخ أنه رآها من قبل. علاقتها بالعقاقير الطبية بعض الأدوية ترفع نسبة حدوث الـظاهرة كما يؤكد العلماء، ففي عام ٢٠٠٢، تمكن عالمان من دراسة رجل ظهرت عليه علامات دِيْچا ڤو عندما تناول دواء لعلاج أعراض إنفلونزا. هذا الرجل أكمل الدراسة وبدأ يزور طبيبه النفسي لتسجيل ما يشعر به، توصل العالمان لنظرية ملخصها أن الـ دِيْچا ڤو نتيجة مباشرة لارتفاع تأثير المعدلات العالية من مادة الـ(دوبامين) ـ أحد الموصلات العصبية للمخ ـ على بعض الخلايا في الفص الصدغي.
مشاركة :