في عام 1911 قام الكاتب الألماني هرمان هيسه برحلة إلى الهند، وهو عاد من تلك الرحلة بكمّ كبير من الذكريات، ذكريات أضافها إلى ما كان تبقى لديه من ذكريات طفولته التي أمضى منها جزءاً لا بأس به في تلك المنطقة نفسها من العالم أيضا (إذ إن والده كان واحداً من مؤسسي الإرسالية التبشيرية الإنجيلية في الهند) ليخلق من ذلك كله، وفق ما تقول الناقدة نيكول شاردير، عالماً من السحر والإغواء والسراب: لتخلق بالأحرى عاماً أسطورياً مستوحى بأسره من الديانة البوذية التي كان هيسه يعرفها جيداً وربما أكثر من أي أوروبي آخر في ذلك الحين. من هنا، كان من الطبيعي أن يرى كثر من الباحثين أن هرمان هيسه، كان، على غرار صديقه الكاتب الفرنسي رومان رولان مفتوناً بالهند، وبالشرق عموماً. بل لنقل إن الغرب كله كان في ذلك الحين شديد الحماسة لكتابات رابندرانات طاغور وشرقيته الخالصة. من هنا، ما يقوله النقاد والدارسون من أن الشرق كان هو ما مكّن هرمان هيسه من اكتشاف الحكمة، التي هي في الحقيقة منبع كل دعة وتناسق. ففي حكمة الشرق، يمكن الإنسان، وفق متحمّسي تلك الأزمنة، أن يزدهي، بعيداً من المادية والتشاؤم والمعاناة، وسط توازن تام تخلقه السعادة الأسمى، كما وسط الاتحاد الفريد من نوعه بين الأضداد... وإذا شئنا عنواناً لهذا كله بين كتابات هرمان هيسه، حتى وإن عرفنا أن معظم أدبه التالي، طوال نصف القرن الأخير من حياته، كان مطبوعاً بذلك كله، لا يمكننا أن نتوجه إلا إلى الأصغر بين كتبه والأكثر فاعلية وجاذبية على أية حال: «الرحلة إلى الشرق»، وهو تحديداً الكتاب الذي كتبه من وحي رحلته الهندية تلك. > وهنا في المقام الأول، لا بد من الإشارة إلى أن تلك الرحلة وظروفها أحدثت تغيراً أساسياً في حياة هيسه. صحيح أنه إذ عاد من هناك إلى أوروبا عام 1914 ليصطدم باندلاع الحرب العالمية الأولى المتناقضة في جوهرها مع كل ما كان يؤمن به في ذلك الحين، كتب لاحقاً روايته «دميان» (1919) محملاً إياها دعوته للوصول إلى تصالح الإنسان مع ذاته عبر «اتباعه ديناً جديداً يعرف كيف يصالح بين المتناقضات»، لكن صحيح أيضاً أن «الرحلة إلى الشرق» تحمل كل البذور التي حملتها «دميان». من هنا، حين كتب أندريه جيد، بعد الحرب العالمية الثانية متحدثاً عن زميله الألماني رابطاً توجهه الشرقي بتوجه هيسه في هذا المجال، كان من الطبيعي له أن يتوقف عند «الرحلة إلى الشرق» مفسراً كيف أن قراءته هذا الكتاب كانت وراء اهتمامه، هو شخصياً أيضاً، بالشرق. > قبل «الرحلة إلى الشرق» كان هرمان هيسه أصدر روايات عدة كشف فيها عن عميق أزمته الروحية، وكانت أزمته تلك وصلت إلى ذروتها عام 1910 حين أصدر «جرترود»... وبعدها قرر أن لا سبيل أمامه للخروج من الأزمة، إلا بالتوجه إلى هناك، إلى حيث - كما يقول لنا في صدد «الرحلة إلى الشرق» - يمكنه أن يعثر على إجابات حاسمة عن بعض أسئلة كانت تشغل باله، وأهمها: هل حقاً لا يمكن العثور على مصالحة بين النزعة الروحية والنزعة الأولى الفطرية لدى الإنسان؟ إن الجواب الحاسم عن هذا السؤال سيأتي، لدى هيسه، لاحقاً في عمله الأكبر «لعبة الكريات الزجاجية» حيث توقف، خصوصاً عند الازدواجية الصينية التكاملية بين «الين» و «اليانغ»، ولكن هذا الجواب، ما كان ممكناً لولا «الرحلة إلى الشرق»، حيث عرف الكاتب كيف يتحدث عن حجيج يموضعون أنفسهم تبعاً لمنظومة إلهية ذات أسرار لا يُسمح لأي واحد منهم بأن يكتشفها... ولكن إلى أين يتجه الحجيج؟ طبعاً إلى أرض الحكمة المنشودة... ولكنهم ليسوا جميعاً متوجهين إلى هناك مأخوذين معاً وفي الوقت نفسه بسياق فكري واحد، إذ إن بعضهم يتطلع إلى العثور على الكنز الأسمى، والبعض الآخر للعثور على الأفعى السحرية، بينما ثمة من يسير ساعياً للوصول إلى تعلم منطق الطير، أو العثور على زهرة الشباب الضائعة. ومن بين هؤلاء الحجيج هناك بطل «الرواية» المسمى هنا هـ.هـ. (هرمان هيسه... طبعاً). وهذا السيد هو الذي يروي لنا هنا حكاية تلك الرحلة الشرقية التي قام بها ذات يوم. إنه في الرحلة يرافق أولئك الحجاج، «المستيقظين» الذين يسيرون معاً على طريق الحكمة. وها هو الراوي يفيدنا كيف «أننا سرنا نحو الشرق، لكننا كنا في طريقنا نجتاز كذلك العصور الوسطى والعصر الذهبي» ويروي لنا كيف «كنا نعبر إيطاليا وسويسرا» وكان «يحدث لنا أحياناً أن نضرب خيام رحلتنا في القرن العاشر، ونأوي لدى البطاركة والجنيات». > ولكن، ما الذي كان يدفع بطلنا إلى القيام بتلك الرحلة/ المغامرة؟ الأمل في أن يلتقي حبيبة أحلامه الحسناء فاطمة... هل سيلتقي هـ.هـ. فاطمة في آخر تطوافه؟ ليس علينا هنا أن نجيب. ثم إن هذا ليس هو المهم. المهم هنا هو أن هذه الرحلة، التي هي رحلة بحث عن الذات بمقدار ما هي رحلة بحث عن الحب، ستكون على مدى صفحاتها القليلة نوعاً من إنجاز الذات يمر عبر الأعياد والشعر والورد والموسيقى. ولكن، ليس بالنسبة إلى هـ.هـ. وحده بل كذلك بالنسبة إلى كل القائمين بالرحلة، مهما كانت غاياتهم ومشاربهم. وهم فيما كانوا يتقدمون على طريقهم، كان البعض منهم يصبح «مختاراً» و «عارفاً» و «مسترق النظر»... وبالتدريج صارت قلوبهم مملوءة بالإيمان أكثر من ذي قبل. لقد أقسموا معاً ولبسوا حول أصابعهم الخاتم نفسه... غير أنه كان ثمة بينهم من أضاع الطريق وانتهى به الأمر إلى رمي خاتمه ونسيان الكلمة البدئية... وهؤلاء لن يأسف عليهم أحد. ذلك أن القارئ - ورفاق الرحلة - بدلاً من ذلك يبدون منهمكين بالتعرف إلى بعض الشخصيات المعروفة التي تحدث لقاءات مدهشة معها خلال الرحلة، من زرادشت وأفلاطون وفيثاغورس والبرتوس مانيوس، إلى نوفاليس وبودلير وغيرهم من أصحاب الرحلات التعليمية: كلهم هنا على الطريق يلتقيهم هـ.هـ. ويتحدث عنهم إن لم يتحدث إليهم، وإلى جانبهم سانشو بانشا وغولدموند (بطل واحدة من روايات هيسه). ولكل واحد من هؤلاء أسراره وأفكاره... لكنهم جميعاً يشتركون في ذلك السفر العجيب. > عندما أصدر هرمان هيسه هذا الكتاب الذي كشف مقدار ما أثّر الشرق فيه، بقدر ما كشف عن حاجة كل الذين قرأوه وأولعوا به الى جزء روحي من حياتهم كان ضائعا من قبل، لم يكن معروفاً تماماً، وكانت سنه لا تتجاوز الرابعة والثلاثين، لكنه مع هذا كان أصدر على الأقل روايتين هما: «بيتر كومنزند» (1904) و «جرترود» التي أشرنا إليها أعلاه، لكنه خلال العقود التالية عُرف وقُرئ على نطاق واسع، حتى وإن كان نُسي في شكل مؤس خلال السنوات الأخيرة من حياته، ليموت هادئاً في قريته السويسرية الصغيرة التي أمضى فيها آخر سنوات حياته ورحل فيها عام 1962. ومع هذا، فإنه بعد أقل من عقد من رحيله عاد إلى الواجهة الأدبية من جديد، وتحديداً بفضل حركات الشبيبة أواخر الستينات، إذ اكتشفت تلك الشبيبة حكمة شيوخ الهند بديلاً للعقلانية الأوروبية الباردة، فكان أن أعيد الاعتبار إلى هرمان هيسه الذي كان أصر دائماً على هامشيته وعلى أن يقف خارج «الموض» الأدبية وخارج كل تصنيف. وهيسه، كان بعد «دميان» التي أصدرها في عام 1919، عرف فترة خصب في كتابته، إذ عثر على لغته التعبيرية الخاصة، وهكذا تتالت لديه أعمال مثل «سيدهارتا» (1922) و «ذئب البوادي» (1927)، وصولاً بالطبع إلى روايته الكبرى «لعبة الكريات الزجاجية» التي صدرت خلال الحرب العالمية الثانية، في سويسرا التي كانت أضحت وطناً نهائياً له. وقد حاز هيسه جائزة نوبل للأدب في عام 1946، مكرساً واحداً من كبار أدباء، بل مفكري، القرن العشرين بأسره. alariss@alhayat.com
مشاركة :