رغم الإجماع شبه التام لدى المؤسسات السياسية والقضائية والعسكرية في إسرائيل، على رفض قرار قضاة المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، بمنح المدعية العامة فاتي بنسودا، الضوء الأخضر وصلاحية التحقيق، في جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين، خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة ومشاريع الاستيطان وهدم البيوت وغيرها في الضفة الغربية، انطلقت أصوات مغايرة تدعو إلى التعاطي مع المحكمة بأسلوب مغاير، والبحث عن وسيلة للتعاون معها حتى تمنع تدهوراً إضافياً في موقفها.وقالت مصادر عليمة إن ثلاثة مسؤولين، على الأقل، ممن يحضرون عادة جلسات الكابنيت (المجلس الوزاري المصغر لشؤون الأمن والسياسة في الحكومة الإسرائيلية)، طلبوا وقف الرد العاطفي الحاد والمستفز على قرار المحكمة، والتفكير في وسائل للتعاون مع المحكمة. ونقل على لسان أحدهم، قوله: «نحن نقاطع المحكمة ونهاجمها بأقذع الكلام، ثم نلومها على اتخاذها قرارات لا تعجبنا. وهذه طريقة يجب أن تتغير. إن كنا نريد أن يصغوا لنا ويحترموا رأينا، علينا أن نغير أسلوبنا ونتعاون معهم. فالقرار في المحكمة اتخذ بأكثرية اثنين مقابل واحد، وهذا يعني أن هناك قاضياً كان إيجابياً تجاه الموقف الإسرائيلي. علينا أن نبني سياستنا على هؤلاء الذين يؤيدوننا. والقرار الصادر عن المحكمة، قرار تمهيدي، ولا يعني أننا سنصبح فوراً متهمين يجري التحقيق معنا. وإذا أحسنا التعامل الآن مع المحكمة يمكننا أن نغير الاتجاه».من جهتها، أكدت أجهزة القضاء الإسرائيلية، على أن القرار هو «ضوء أصفر وليس ضوءاً أحمراً بعد، وبالإمكان تغييره». وأوضحت أن الخطوة المقبلة ستكون في قرار تعيين مدعٍ عام جديد للمحكمة، مكان بنسودا، التي تنتهي ولايتها في يونيو (حزيران) المقبل، وأن هناك ضرورة للعمل على اختيار مدعٍ آخر غير متحمس لمثل هذا الموضوع؛ فإذا تم اختيار «شخصية إيجابية»، بالإمكان إنهاء هذه المرحلة بسلام، ولكن إذا اختير مدعٍ آخر، مثل بنسودا، فإن إسرائيل ستكون في مشكلة جدية، حيث «سنشهد تسونامي من الدعاوى ضدنا حول ارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين، وسيضطر مئات الشخصيات الإسرائيلية الكبرى، إلى المثول أمام محاكم وربما مواجهة اعتقالات، بدءا برؤساء حكومات سابقين، إلى وزراء دفاع ورؤساء أركان وضباط كثر في الجيش والمخابرات، وقادة المستوطنات».وخرجت وسائل الإعلام الإسرائيلية، أمس، بالعديد من المقالات والتحليلات حول قرار المحكمة. وكتب القنصل الإسرائيلي العام السابق لدى الولايات المتحدة، الدبلوماسي ألون بنكاس، في صحيفة «هآرتس»، عن أن قرار قضاة محكمة لاهاي «إشكالي للغاية»، ولكن «لا حاجة إلى المبالغة بأهميته الفورية، فهو مركب وإشكالي من الناحيتين القانونية والسياسية، وينطوي على تبعات سلبية محتملة على إسرائيل». وأضاف بنكاس: «القرار يعترف عملياً بدولة فلسطينية، بل إنه يرسم حدودها، وإن كان ذلك لغرض التحقيق فقط. وقد يؤدي القرار إلى تحقيق، وكذلك إلى اعتقال مئات الإسرائيليين، لكن هذا لن يحدث في الأمد القريب، وليس مؤكداً أبداً حدوثه إذا تصرفت إسرائيل بحكمة».وانتقد بنكاس تصرفات إسرائيل وقال إنها بقرارها مقاطعة المحكمة، فقدت حق الاستئناف على القرار، وقد تواجه تحقيقاً محتملاً طوال الأشهر القريبة المقبلة. وعليها أن تقرر إن كانت ستتفرج من بعيد وتدخل في حرب مع المؤسسات القضائية في العالم، أم ستشارك في المداولات وتقدم حججها ومبرراتها. «لا يجوز لنا المقاطعة من جهة والولولة والعواء من جهة ثانية». وأكد أن الاعتماد على الولايات المتحدة، ليس حماية دائمة لفترة طويلة، وعلى الأرجح أنها ستخضع لمجمل مواضيع سياسية أخرى بين إسرائيل والولايات المتحدة.واتهم بنكاس، رئيس الوزراء وبقية الوزراء، بالتلون وبازدواجية المعايير. وقال إن الحجة الأقوى التي يمكن لإسرائيل استخدامها لصد المحكمة، هو أن لديها جهاز قضاء نزيهاً يستطيع معالجة الخروقات التي يقوم بها جنود وضباط إسرائيليون. «ولكن ما دام بنيامين نتنياهو، يتولى منصب رئيس الحكومة، ويهاجم الجهاز القضائي في إسرائيل ويتهمه بعدم النزاهة، فإنه لا يستطيع استخدام هذه الحجة».وكتبت محللة الشؤون القانونية في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، طوفا تسيموكي، أن قرار نتنياهو، بتعيين أفيحاي مندلبليت مستشاراً قضائياً للحكومة في حينه، كان نابعاً من «تخوفه من المحكمة الدولية في لاهاي»، إذ إن مندلبليت، المدعي العام العسكري السابق، خبير في هذه المحكمة ورسالة الدكتوراه التي أعدها كانت حول محكمة لاهاي. وقالت إن «قرار قضاة محكمة لاهاي اعتبر في المؤسسة القانونية والدبلوماسية الإسرائيلية، قراراً دراماتيكياً، وفي هذه المرحلة، يوجد له تأثير نفسي ومعنوي على صورة إسرائيل فقط، مع أن هناك أيضاً مَن يرى أنه يدخل إسرائيل إلى المسلخ».وأشارت تسيموكي إلى أن إسرائيل استعدت منذ عشر سنوات لقرار كالقرار الذي صدر عن محكمة لاهاي. وبضمن ذلك «الحاجة إلى الدفاع، يومياً، عن قادة الدولة في الماضي والحاضر، أمام أوامر اعتقال دولية. لكن المؤسسة تعلم أنه في جميع الأحوال، وعدا الفذلكات القانونية التي ستطرح، أن أمراً كبيراً حدث يوم الجمعة في لاهاي، ولا أحد يعلم إلى أين سيقود إسرائيل».
مشاركة :