منذ الوقت الذي كان الشاعر يخرج على خيله يرافق جنود المسلمين، ويحمل قصائده في ذهنه مثل رماح مسنونة، كان الأدب والشعر حالة مرسخة للدفاع عن الأرض والعرض والموت في سبيل الحق والشهادة، فلم يرسم الشعراء صور الجنود وهم يتساقطون برماح العدو وتفر الدماء من صدورهم وحسب، بل راحوا يرسمون صوراً باذخة لمنزلة الشهادة ولأرواح المقاتلين الطاهرة، وما سيلقونه من خلود في جنات النعيم. فكما كان المسلمون يعدون العتاد والخيل والإبل لحرب طاحنة يرفعون فيها نداء الإسلام، كان الشعراء يشحذون خيالهم ليكتبوا قصائد تعلي عزيمة الجنود وتشعل حماستهم، فتروي السيرة النبوية الشريفة أن الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، كان يقول لحسان بن ثابت: اهجُ قريشاً، فإنه أشد عليهم من الرشق بالنبل، وكان ابن ثابت يقول: والذي بعثك بالحق لأفرينَّهم بلساني فرْيَ الأديم. منذ تلك السيرة حتى اليوم والحرب والموت في سبيل الأوطان أحد المضامين التي شغلت الشعراء، حيث راحوا يخلدون الشهداء وتحولوا إلى حكايات العزة والبطولة، فالكثير من الأدب والشعر يشتغل على فكرة الفداء بالروح والدم، والكثير يوثق سير الشهداء، ويكتب بطولاتهم، فالباحث في مدونة الشعر العربي يجد نماذج لافتة توقفت كثيراً عند قصص الشهداء. واحدة من هذه التجارب الخالدة ما قدمه الشاعر محمود درويش منذ قال: عندما يذهب الشهداء إلى النوم أصحو/ وأحرسهم من هواة الرثاء/ أقول لهم/ تصبحون على وطن، إذ كشف درويش واحدة من تجليات الشعر وتعاليه على فكرة الموت، فقال إن الرثاء لا يليق بالشهداء، فهم أسمى من الموت وأعلى، وأكثر حياة منا نحن الذين نمشي ونأكل ونتنفس. هذا تماماً ما يرسمه بدر شاكر السياب في قصيدته ابن الشهيد، إذ يكثف سيرة بلاده وفكرة الحرب بكل محمولاتها الإنسانية، حين يقول: العيون/ تغفو إلى أبد الإله/ إلى القيامة في سلام/ رمت الرداء العسكري ونشرته على الوصيد/ لثمته فانتفض القماش يرد برد الموت/ برد المظلمات من القبور. لا ينطبق ذلك على التجارب التي عاشت بلادها تجربة الحرب والاحتلال وغيرها، فالشهادة حالة إنسانية يذهب إليها الشعراء بوصفها أقصى درجات التسامي على الدنيا، وأعلى درجات التضحية، فيقول بدوي الجبل في وصفه للشهيد: يُعطي الشهيدُ فلا واللّهِ ما شَهِدَتْ عيني كإحسانِهِ في القَوْمِ إحسانَا وغايةُ الجُودِ أنْ يَسْقِيْ الثَّرى دَمَه عندَ الكفاحِ، ويلقى اللّهَ ظَمْآنا هذا هو الشعر، تلك الحالة التي تخرج من الوجدان وتتبدى في نصوص، لترسم حزننا، عزتنا، وفرحنا، ونصرنا، فليس غريباً أن يكون الشعراء قرب ساحات المعركة، وعلى مقربة من قلوب الجنود وهم يقدمون أرواحهم دفاعاً عن أرضهم، وتحقيقاً لفكرة المحبة والسلام على الأرض. اليوم ومثلما تودع الأم أبنها، يودع الشعب الإماراتي شهداءه، فلا يذرف الدموع أو يعلي صوت النحيب، بل يمضي مصحوباً بخشوع المتعبد، وحضور المصلي في ليلة هادئة، فتتحول الشهادة إلى سيرة جديدة للعزة تثير قريحة الشعراء والأدباء، وتتحول سيرة الجنود إلى قصائد تتغنى بتضحيتهم وبطولتهم. ليس ذلك سوى استجابة للعزة والفخر التي يشعر بها الإماراتيون وهم يقدمون دماء أبنائهم فداءً لعزة الوطن وحماية للمنطقة العربية بأسرها من أشكال الفكر الظلامي المتعصب، فكان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، أول من كتب في شهداء أبناء زايد، فقال في قصيدة بعنوان طارق بن زايد أو طارق بن زياد: ما ينرثي الحي عاد تنرثي الأموات يا كيف نرثيك يا حي ويا شاهد لو نرتفع في حضورك بالحزن الأصوات إتعيد إنته وتعيش ف عيد وتعايد أحس بك من عيالي يوم طيفك فات واحس أني لمثلك منجب ووالد دافعت عن دار هي دارك من الآفات تواجه أهل الغدر والمعتدي الحاسد عن طارق ابن لزياد إسمك شبيهه بات كنت إنته طارق ولكن الأبو زايد.. ربما لا يمكن حصر القصائد التي راحت تتغنى بعزة وشموخ الشهداء، فلجنود الدولة مكانة في نفوس أهلها، وللشهداء مكانة خاصة، رسمت معالمها الثقافة الدينية، إذ جاء في الحديث النبوي الشريف: إِنَّ شُهداءَ اللهِ في الأرضِ أُمَناءُ اللهِ في الأرضِ من خلقِهِ، قُتِلوا أوْ ماتُوا، وراحت نصوص الأحاديث النبوية تساويهم بالأنبياء والصديقين فيقول رسول الله ، صلى الله عليه وسلم: التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مع النَّبيينَ والصِّدِّيقِينَ والشّهَدَاءِ. لذلك ليس غريباً أن يستقبل الشعراء الإماراتيون شهادة الجنود البواسل في اليمن بقصائد باذخة في الصور، تتغنى بسيرتهم وتؤكد عزتهم وكرامتهم، فيقول الشاعر ابن ثالث: ماذا أقول وهل يرثى بقافية من ليس ينصفه شعر ولا نثرلكم القوافي وتلك اليوم عاجزة فيما أقول إذا قصرت أعتذر. وكتب الشاعر حمد بن مصوي: عْيال زايد مجدهم مجدٍ تليد بسم العرب تقدموا ب عيالهم عن كل دولة قدموا واحد شهيد دون العرب ب أرواحهم وأموالهم وكتب الشاعر محمد بن دايل القرني يذكر مجدهم: ماتوا وعاش البيرق اللي يشيلون من دون مجدك يالعروبة تفانوا عيال زايد برهنوا ما يقولون على الوفا ولعهد الأجداد صانوا وان جات حزات الطلب جواك مليون عن اليمن وأهل اليمن ما توانوا وقال الشاعر محمود نور: لبيك يا وطني فحقك أخلص في كل معنى للجميل يلخص فإذا دعا الداعي ليوم كريهة لا شيء من روحي العزيزة أرخص. لا يكشف ذلك سوى منزلة الشاعر في وجدان المجتمع الإماراتي، ففي أبيات ابن ثالث يظهر عجز الشعر أمام رثاء الشهداء، إذ يظل الموت في سبيل الأرض والمحبة والسلام أعلى وأسمى من كل ما يمكن أن يوصف فيه، ويختار ابن مصوي السيرة التاريخية للشعب الإماراتي، ليقول إن شهداء اليوم يكملون سيرة الأنفة والشموخ التي كتبها شهداء الوطن طوال تاريخهم. وتظهر عزة الوطن في أقصى صورها في أبيات محمد القرني، إذ يرى أن الدماء ترخص والأرواح فداء رفع راية الوطن وعزة أهلها، مشيراً إلى أن ذلك ما ورثوه عن أجدادهم، عبر تاريخهم الطويل في سيرة البطولة منذ عصر الاحتلال إلى اليوم الذي يهبّون فيه لنصرة جيرانهم، وهذا ما يؤكده الشاعر محمود نور في أبياته، فالأرواح ترخص أمام مجد الوطن وعزة أهله، وتاريخه المجيد. سيظل الشعر قريباً من أرواح الشهداء، ويكتب فيهم أعذب الكلام حتى يصبحوا علامة بارزة في ذاكرة الوطن وسيرة بطولته.
مشاركة :