منذ القدم والبحر الأحمر ساحة صراع بين القوى المتنفذة من حوله، أو حتى من خارج محيطه، ولا تكاد هذه الصراعات تتوقف عبر مراحل التاريخ إلا إذا كان التوقف من أجل العودة مرة أخرى، كاستراحة محارب، يغفو ليستيقظ من جديد، وذلك بحكم المصالح المتقاطعة أحيانا، وبحكم أطماع الامبراطوريات؛ سواء الإمبراطوريات من حوله، أم الامبراطوريات العالمية من خارج حدوده. يطل على البحر الأحمر دول المملكة العربية السعودية والأردن والسودان واليمن وجيبوتي ومصر وإسرائيل وإرتيريا. وهذا الكتاب للباحث اليمني د.ثابت الأحمدي "الصراع الدولي في البحر الأحمر وتأثيره على الأمن القومي"، يسعى لاستجلاء طبيعة هذا الصراع في هذا المكان "البحر الأحمر والدول المطلة عليه" بأبعاده التاريخية وغاياته المستقبلية، ومدى تأثيره على اليمن في مختلف الجوانب، للإسهام في حلحلة هذا الصراع. توقف الأحمدي المتخصص في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، في البداية عند اليمن: الجغرافيا بكونها هندسة سماوية من صنع الإله، والتاريخ بصفته هندسة إنسانية من صنع البشر، بما له وما عليه، كنشاط إنساني ممتد عبر حياة الناس، ولا يزال. وفي الفصل الثاني تناول مجموعة الدول المطلة عليه، بتداخلاتها الجغرافية والتاريخية؛ بموانئها وجزرها وخلجانها ومضائقها، وما تمثله هذه المنظومة البحرية من أهمية في سياستها الاقتصادية؛ بل سياستها العامة. وفي الفصل الثالث تطرق للصراع التاريخي والنشاط البشري الذي دار على هذه الجغرافيا منذ التاريخ القديم وإلى اليوم، وطبيعة هذا الصراع الذي أخذ أكثر من وجه وأكثر من سبب، تبعًا لطبيعة المتصارعين أنفسهم، إلا أنه لم يغادر الهدف الاقتصادي أو السياسي أو الديني، والأخير أقل، سواء في الماضي أو الحاضر، علما أن الاقتصاد قد تداخل كثيرا مع السياسة، وصار كلٌ منهما يؤثر في الآخر، وهو صراع دولي قديم/ جديد إلى جانب الصراع المحلي، نظرا لأهمية البحر الأحمر والقرن الأفريقي.وتوقف في الفصل الرابع عند تأثير هذا الصراع في الأمن القومي اليمني، سياسيا وأمنيا واقتصاديا وبيئيا، على أساس أن الصراع دائر في محيطه، وحول سواحله، ومن ثمَّ فمن الطبيعي أن يتأثر سلبا بهذا الصراع، خاصة اليوم مع الجريمة المعولمة، والتهريب، والاتجار بالبشر، والتلوث، وظاهرة الإرهاب، وكونه ـ اليمن ـ يعيش مرحلة استثنائية من حياته، مرحلة تتراوح بين الدولة واللادولة بفعل جناية الإمامة بمليشياتها الانقلابية التي مارست عدوانا همجيا على الدولة بمؤسساتها الرسمية، وقوضت السلم الاجتماعي، ودمرت مقومات الحياة في الدولة والمجتمع. وخلال تحليلاته توقف الأحمدي عند مظاهر التهديد الإيراني للأمن القومي اليمني جراء تواجدها في البحر الأحمر، وقال "الرابطة الروحية بين الكيان الإمامي اليمني "الزيدية/ الهادوية التاريخية" من جهة، ودولة إيران من جهة أخرى، وهي علاقة قديمة تعود إلى فترة المؤسس الأول للفكرة الإمامية في اليمن الهادي يحيى حسين الرسي، وأيضا إلى الإمامة القاسمية في التاريخ الحديث والمعاصر. هذه الرابطة كأي رابطة أيديولوجية عابرة للحدود والقارات ولا تنتمي لأوطانها، وعادة ما تكون على حساب الوطن وأمنه وسيادته، وفي أحداث الفترة الأخيرة ما يكفي للتدليل على ذلك. فقد مثلت إيران من خلال تواجدها في الجزر الإرتيرية السند الخفي من خلال تدريب عناصر جماعة الحوثي الإمامية، وأيضا دعمهم بالمال والسلاح من خلال جزيريتي ميدي وكمران. وكما تمثل لهم سندا في الدعم اللوجيستي والإسناد، فإنها قد تمثل لهم مأوىً وملاذًا آمنا في حالة الهروب والتخفي إذا ما تمت المطالبة بهم من قبل الدولة. ولفت إلى أن "تصدير المذهب الاثني عشري الإمامي من إيران إلى إرتيريا، على الحدود البحرية اليمنية خطر في حد ذاته، يقوي من خطر الجماعة الإمامية بالداخل، ويمثل جسر عبور، وعاملا من عوامل الاتصال والتواصل؛ لاسيما وبينهما من الترابط والتواشج ما لا يخفى على أحد، كأي ترابط أيديولوجي يدعي مظلمة تاريخية، جعل منها مشروعا سياسيا، قائما على نفي الآخر. وينتشر التشييع وتصدير المذهب الاثني عشري بقوة في شرق أفريقيا ووسطها، وربطه مباشرة بإيران التي جعلت من نفسها مرجعية عليا للشيعة في أنحاء العالم؛ ومما هو معروف للجميع أنّ إيران دولة توسعية من زمن طويل، والتوسع أحد أهدافها الاستراتيجية التي لن تتخلى عنه. كما أنها دولة نووية، ولها طموحاتها غير المشروعة في المنطقة العربية. وأكد الأحمدي أن "العمل على مسخ الهوية اليمنية التاريخية باستبدال ذلك بهوية دينية مشوهة، كون الأيديولوجيات لا تنتمي لأوطانها، بقدر ما تنتمي لأفكارها العابرة للحدود، علما أن للشعوب عقائدها الوطنية كما لها عقائدها الدينية، وما لم تكن الدولة في حد ذاتها أيديولوجية جميع أبنائها بلا استثناء فإن الأيديولوجيات الأخرى ستحل محلها، ومن هنا يبدأ الخطر. إن التواجد الإيراني في البحر الأحمر وشرق أفريقيا يعمل على تسهيل الصلة والتواصل بينها من جهة، وبين بعض الرموز السياسية التي تستزرعهم إيران جيوبا داخلية، وخاصة من بعض عناصر اليسار الذين ظهروا في الأحداث الأخيرة بولاء غير متوقع لإيران ولزعيم الجماعة الإمامية في الداخل عبدالملك الحوثي، رغم الهوة الفلسفية والفكرة بين الجماعتين". ولفت إلى أنه على الصعيد الديني تتواجد في البحر الأحمر اليوم أيديولوجيتان دينيتان، الأيديولوجية الإسرائيلية الصهيونية، باعتبارها "شعب الله المختار" والأيديولوجية الإيرانية الشيعية، باعتبارها "المصطفين من آل بيت النبوة". وكلاهما على طرفي نقيض من أي مغاير لهما في التوجه، كما أن لكل منهما مشروعه الخاص، وحلمه المستقبلي في المنطقة، مع الإشارة إلى أن بينهما لقاءات تكتيكية فرضها منطق العداء للطرف الثالث "العرب والمسلمون السنة". أضف إلى ذلك الدور التبشيري "التنصيري" في شرق أفريقيا. وكل هذا التواجد منفردا ومجتمعا مصدر تهديد للأمن القومي اليمني. وأضاف الأحمدي أن "شعب إرتيريا ذو أغلبية عربية مسلمة منذ قرون طويلة، ونتيجة لغياب الاستراتيجية العربية الإسلامية تجاه القرن الأفريقي فقد أصبحت إرتيريا اليوم ذات أغلبية مسيحية، وإن كانت أغلبية قليلة، أضف إلى ذلك انحسار اللغة العربية فيه، مع الإشارة هنا إلى أن الارتيريين والاثيوبيين وأيضا الصومال وجيبوتي ينحدر جزء كبير منهم من عرق سامي، وتربطهم بالعرب وحدة الجنس، وللأسف انفرط عقد هذه الرابطة لدى الارتيريين بدرجة رئيسية. وأوضح إن دولة إرتيريا بدرجة رئيسية ومعها بقية دول شرق أفريقيا عمق استراتيجي وسياسي للجمهورية اليمنية، وعدم التعامل معها - ومع المنطقة بشكل عام - باستراتيجية مدروسة خلال العقود الماضية أفضى إلى عواقب وخيمة، منها اعتداء إرتيريا على جزيرة حنيش في عام 1996، إضافة إلى الاعتداءات المتكررة من قبل الارتيريين على السفن اليمنية والعاملين في الصيد البحري. ومما يؤسف له أن أصبحت هذه الدولة إلى إسرائيل أقرب منه إلى الأمة العربية كاملة، على الرغم من مصالح إرتيريا التي تقتضي ذلك. منتهجة سياسة عدائية مع جيرانها منذ السنوات الأولى لاستقلالها. ورأى الأحمدي أن دولة إرتيريا "وكيل إقليمي" في المنطقة لكل من إسرائيل وإيران، وبعض الدول الأخرى، والدولتان المذكورتان هما دولتان عدوتان لليمن، كلتاهما تقومان على أيديولوجيات دينية صلبة، لا تؤمن بالآخر ولا تتشارك معه، إلا أن يكون تابعا فقط، ووفقا للمؤشرات التاريخية وللمعطيات السياسية على أرض الواقع فإن مسألة التعايش مع إيران على المدى المنظور والقريب أمر مستبعد إلى حد كبير، بسبب مواقفها السلبية تجاه دولة اليمن وشعب اليمن؛ أما بالنسبة لإسرائيل فالاعتراف بها غير وارد أساسًا، فضلا عن التعامل معها. وقد تم خلق هذه الدولة ومساعدتها في الانفصال عن اثيوبيا من قبل الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل لخدمة الأجندات الخاصة بهما، كفاعل جديد من خارج العنصر العربي أو الإسلامي. وحذر الأحمدي من إن تسلل إيران باتجاه منطقة الشرق الأوسط ودول الإقليم، دون غيرها قد جاء بعد أن يئست من التسلل شرقا باتجاه باكستان، أو شمالا باتجاه روسيا؛ كون باكستان وروسيا قوتين نوويتين، ومن المستحيل كسر شوكتهما، فيئست منهما، طامعة بالتسلل باتجاه الجنوب العربي/ الخليجي. كما أنها لا تطمع في الهند أيضًا ذات القوة البشرية والسياسية الصاعدة، والمفصولة عنها بالبحار. وقال إن أغلب حروب المنطقة التي دارت منذ آخر الأربعينيات من القرن الماضي إلى اليوم كان مسرحها البحر الأحمر، ابتداء من احتلال "أم الرشراش" فالعدوان الثلاثي على سيناء في شمال البحر الأحمر، فحرب 67، وأيضًا حرب أكتوبر 73، ثم الصراع الأثيوبي الإرتيري لم يكن في حقيقته إلا صراعًا على البحر الأحمر، وأيضًا الصراع الإرتيري اليمني في منتصف تسعينيات القرن الماضي، فالصراع المصري السوداني على شلاتين وحلايب حاليًا، وصولًا إلى الصراع الناعم اليوم لأكثر من طرف، من بينهم لاعبون جدد، وبعضهم عائدون إليه وقد ودعوه من قرون "تركيا". وخلص الأحمدي إلى مجموعة التوصيات نشير إلى بعضها: أولا: العمل على صناعة استراتيجية وطنية بحرية/ شرق أفريقية، من قبل الحكومة اليمنية، تحتوي الصراع الدولي في البحر الأحمر وتحد من خطره. من ضمن هذه الاستراتيجية بناء قوة عسكرية وأمنية عالية الكفاءة لتأمين وحماية الحدود والمياه الإقليمية في البحرين الأحمر والعربي، من الأطماع التي تمثل تهديدا واضحًا للأمن القومي اليمني والخليجي، والواقع أن اليمن لا تستطيع أن تقوم بحماية حدودها بنفسها في الوقت الحالي، نظرا للظروف الاستثنائية التي تمر بها، وهو ما يحتم على الشقيقة الكبرى "المملكة العربية السعودية" مساعدتها بهذا الدور؛ حفاظا على أمن البلدين الشقيقين، وصولًا إلى بناء قوات يمنية - سعودية مشتركة تحمي حدود البلدين، وفقًا لاتفاقية الدفاع المشترك بين دول الخليج؛ لاسيما وضم اليمن لمجلس التعاون الخليجي أصبح ضرورةً استراتيجيةً عاجلةً لا تقبل التأجيل. ثانيا: العمل على احتواء الصراع الدولي في البحر الأحمر، والتقليل من التواجد الدولي فيه، بالاضطلاع بدور حيوي، يكفل مصالح اليمن والمجتمع الإقليمي والدولي أيضا، دون حضور الدول العظمى أو الكبيرة فيه. ثالثا: إقناع دول الجوار، وخاصة إرتيريا بخطر التواجد الإسرائيلي وتدخله في البحر الأحمر وشرق أفريقيا، وأيضا الخطر الإيراني، للحد من تغولهما، ونشر أفكارهما، خاصة التشييع الذي يجري في شرق أفريقيا. رابعا: العمل على استغلال الروابط التاريخية والدينية بين اليمن من جهة وشرق أفريقيا من جهة أخرى، خاصة إرتيريا، وتبادل المنح الدراسية بين الدولتين، وأيضا التبادلات الثقافية والسياحية، وتأسيس المراكز الإسلامية "السنية" فيها لردم الهوة الكبيرة التي خلقتها كل من إسرائيل وإيران، وأيضا أميركا بين شرق أفريقيا ومحيطها العربي بشكل عام، ومنه اليمن. سادسا: بناء قوة بحرية يمنية تستطيع حماية سواحلها ومياهها الإقليمية، بما تحتوي عليه من ثروات قومية، تدعم اقتصاديات البلد؛ لاسيما والبحر الأحمر ملغوم بالأساطيل الحربية العالمية وبقوى إقليمية ودولية بعضها معادية لليمن كإسرائيل وإيران. سابعا: العمل على تحسين العلاقات السياسية بين دول الجوار الشرق أفريقية، وضرورة التنسيق الأمني والاستخباراتي معها كاملة، والتركيز أكثر على المملكة العربية السعودية الشقيقة وجمهورية مصر العربية فيما يتعلق بأمن البحر الأحمر؛ كون المصلحة واحدة والضرر الحاصل أيضًا واحد على الجميع. وقد أثبتت حرب 1973 صحة ذلك في التكامل الجيوبوليتيكي اليمني المصري، كما أثبتت الأحداث الأخيرة مدى التكامل الجيوبوليتيكي بين اليمن والمملكة العربية السعودية.
مشاركة :