من البحر وزرقته , وتلاطم أمواجه , وانكسارها المترنح على شواطئه, كلما هدهدتها نسمات رياحه الهائمة , كتنهيدة حرى لعاشق يتنفس الصعداء وهو يراقب بلهفته العارمة أحد مراكبه وعلى ظهرها معشوقته الممعنة في الرحيل والابحار عبر لجته, وفوقها تحلق أسراب من النوارس المتأرجحة بين الماء والسماء فيما (يشبه الرقص) , تتولد من هذا كله لغة الشاعر / شفيق العبادي, وتتشكل جغرافيتها وهويتها الانسانية من خلال ديوانه هذا الموجود بين أيدينا الآن, الموسوم بـ ( شيء يشبه الرقص) الصادر عام 2019م عن (دار عرب للنشر والترجمة). لقد سبق لي أن قرأت للعبادي من قبل متفرقات من شعره, التي تم نشرها في بعض من الصحف والمجلات الورقية , أو على بعض المواقع الالكترونية , لكنه لم يسبق لي أن قرأت له مجموعات شعرية أو دواوين كاملة, وذلك لأسباب تعود الي أنا شخصيا , وليس للشاعر نفسه, لعل أبرزها أني قارئ (عشوائي) أقرأ جميع ما يمكن أن تقع عليه عيناي من شعر مكتوب, أو ألتقط من الشعر ما يصل الى سمعي منه مباشرة, ولا أبحث في أرشيف ذاكرتي عن قائمة بأسماء شعراء معينين, ولست قارئا (انتخابيا أو انتقائيا) يركز اهتمامه على قراءة شعر بعض الشعراء دون غيرهم , ويهمل من سواهم, حتى وان كانوا شعراء يستحقون أن نقرأ لهم, أو نستمع لشيء مما يقولونه من شعر. وهذه (العشوائية القرائية)العفوية البسيطة في تناولها, وسهولة تعاملها مع المنتج الابداعي, البعيدة عن الانتقائية , وعدم الانحياز لتيار ثقافي أو فكري محدد على حساب الآخر هي التي أوقعت ديوان العبادي بين يدي مصادفة , فلها من المحاسن – اذن - عندي ما لم يتحقق لغيري من القراء الانتقائيين, الذين يهتمون بالأسماء, أو بالحاوي دون المحتوى! وهي أيضا تمتاز في كونها نافذة مشرعة على فضاء شعري فسيح متعدد الأطياف. وعلى أي حال يبقى شفيق العبادي شاعرا بمعنى الكلمة, سواء قرأت له الكثير أو ما قل من شعره , أو حتى لو لم أقرأ له شيئا, فالشعر الجميل يصل للناس بأي وسيلة كانت, ويؤثر فيهم, في كل زمان ومكان سواء قاله العبادي أو قاله غيره. أجل... انه – حقا- شاعر ذو مقدرة فائقة في اختيار المفردة الشعرية وتوظيفها ووضعها في مكانها الصحيح, باعتبارها الوحدة البنائية للصورة الشعرية كاملة. لقد أبحر بي معه وهو البحار الماهر المتمرس في خوض بحرين متلازمين في آن واحد: بحر الشعر الخيالي المجازي, الذي يخوضه كمبدع , وبحر واقعه الجغرافي كابن شرعي لأبيه (الخليج) من أمه “تاروت” أيقونة الساحل الشرقي التي أنجبته. وأحيانا يلجأ العبادي للدمج بين البحرين , المادي منهما (الحقيقي) والمعنوي (المجازي) لدرجة أن يجد القارئ أو السامع – أحيانا - صعوبة في التفريق بينهما. ورغم أني بدوي بطبيعتي, وجدت نفسي هكذا في الصحراء منذ أن تفتحت عيناي على الحياة, وأخاف البحر الا أن العبادي قد شجعني على أن أخوض معه مغامرة رحلته الماتعة, بين بحر شعره وبحر واقعه الجغرافي الذي نقش تفاصيل تضاريسه على لغته ومشاعره وملامحه. أجل! لقد كانت جميع نصوص هذا الديوان مثقلة عن آخرها بلون البحر ورائحته وطبيعته, وبحكايات بحارة الخليج القدامى, وذكرياتهم مع البحر, ومواويلهم وأهازيجهم البحرية. لنستمع اليه وهو يقول عن هؤلاء ضمن قصيدة جاءت تحت عنوان “غيمة الأسرار”: هنا مروا هنا وقفوا هنا دارت بهم يوما رحى الأيام ركبانا , وما انعطفوا نوارس من مخاض البحر أفشى سرها الصدفُ لهم في خاطر الجدران مما أسرجوا نُطفُ تدلت في يديهم غيمة الأسرار أعذاقا وما قطفوا . الديوان ص31 كما يقول أيضا من قصيدة “ سلام...سلام” : وكما عادة الموج حين يفلي جدائل شطآنه زرتنا أمس حين استشاط بك البحر تلوي عنان النوارس كي تغسل الليل عن صبحنا لتأرجحنا في مرايا الحروف التي زاحمت كاهل البحر في عرينا . الديوان ص19 وأعتقد هنا أنه يقصد (بحر الشعر) بقوله : زاحمت كاهل البحر... وهذا بدليل ذكره لـ”الحروف” لارتباط الحرف بلغة الشعر وبحره, ولا يقصد البحر بطبيعته أو معناه الحقيقي المجرد. وهكذا نجد عشرات النصوص أو القصائد التي ضمها الديوان بين دفتيه , تكاد لا تخلو أي منها من البحر بمعنييه: الحسي الحقيقي الجغرافي , والمعنوي المجازي الابداعي, وهو ما يفسر لنا كذلك - كمصطلح - معنى تسمية العرب القدامى للإيقاع الشعري بـ (البحر) .
مشاركة :