بنية سردية متعددة الأبعاد وفضاءات دلالية واسعة الأمداء

  • 2/11/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

عادت مقولة (شكل الأدب شكل المجتمع ) التي تبنّاها لوكاتش ورفاقه لتسود في الخطابات الأدبية المتعلقة بوباء الكورونا وفي الفن الروائي ، حضرت على نحومباغت وبإيقاع متسارع ، فمازلنا في أتونها نصطلي بنارها ، فقد انشغل الجميع الذين حبسهم هذا الوباء في بيوتهم به تأملا وتفكيرا في ما أحدثه من تحوّل في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، ولهذا ألقى بثقله في النص الإبداعي السّردي قسرا ، لأن أصحابه وجدوا أنفسهم وجها لوجه معه، فظلّ حاضرا في كتاباتهم وخيالاتهم حضوره في واقعهم . سرديّة متعددة الأبعاد و(سيرة حمى ) لخالد اليوسف تعدّ من الأعمال الإبداعية التي قاربت هذا الطارئ المفاجئ وتفاعلت مع المتغيرات التي أحدثها في بنية الحياة واقعا اجتماعيا ونفسيا وثقافيا، ولأن الرواية بوصفها فنّا شموليّا قادرا على استيعاب مختلف الخطابات والتفاعل معها ونسج شعريّتها الخاص ، عمدت هذه الرواية على توظيف مختلف الفنون الأدبيّة ، من سيرة ذاتية وسرد رحليّ ومذكّرات ويوميات وحكايات شعبيّة وتأريخ وآثار وتوثيق ومسح اجتماعيّ وفنون القصّ وأشكال التناص والتضمين والرّصد والوصف والتشكيل ، وكل ما يمكن أن تطاله أداة السّرد وتقنياته في التراث من مقامات وحايات وطرائف وحواريات في نسيج روائيّ متنام ,إذ يقول على لسان (أبوسعد) أحد شخصيات روايته الرئيسين: “أبا أيمن أن الظرف الذي مررنا به استدعى سائر الأدوات الكتابية ، وبما أنني رجل انغمس في الآثار وفي التاريخ ثم تطفّل على عالم الأدب فمن الطبيعي أن أسخّر جميع ما أملك من أدوات ومن ملكات “ ص 132 عتبة النص والفضاء الدلالي إن عنوان الرواية ذاته يوميء إلى فن السيرة ، وإطلاقة المفردة الأولى منه من قيد التعريف إشارة واضحة إلى التعويم الزمني والانفكاك من عقال الّلحظة الراهنة وكذلك الأمر في ما يتعلق بالمفردة الثانية (حمّى ) المضاف إليه التي حدّدت نوع السيرة ولكن دون أن تخصّصها ، وهذا ما أتاح لها حرية الدلالة بنسبتها إلى مختلف السياقات ؛ لكن العلامة الأهم هي التركيز على الأمكنة في الروايا بفضاءاتها المختلفة ؛ وهذا يعكس حالة الحصار الذي عايشه أبطال الرواية والمحاولة المتصلة للانفلات من أسواره بانتهاج سبيل الرحلة التي جاءت ضمن الأطر الفنية للرواية واحتلت حيّزا مهما ؛ بل كان لها النصيب الأوفر ؛ فالإطار المكانيّ الفسيح المتنوّع ما بين الصّحراء الشاسعة الممتدة على مدى البصر بوصفها متنفّسا وحقلا من حقول الحرية والكهوف المطمورة في عمق الأرض تحاصرها الرمال وتطوّقها المخاطر والرهبة التي توحي بها أشجار السدر العملاقة والكائنات الخفيّة من الجن التي تثير الهواجس وتضيّق الخناق على الحرية بما يحف بها من ظلام وما يحيط بها من وساوس والطرقات المفضية إلى المدنن التي خلت الطرق إليها إلا من رجال الأمن الذين يحرسون قانون السلامة فيها وشوارعها الفارغة . الحيز الجغرافي وبالعمق الجيولوجي هذا الحيّز المكاني الذي يضيق إلى حد التقوقع في حجر المنازل ، ويتّسع على مساحة جغرافيا الوطن من أحياء الرياض إلى براريها والجهات الأربع في الشرق حيث الدمام والشمال الشرقي إلى( رماح ) حيث الرمال الحمراء - كما يصفها -مستنبتا لها في أعماق الوعي ، ومعالم الدهناء ذات الرمال الذهبية ، والكثبان العالية المتحرّكة في رصد دقيق عبر عدسة يقظة وكأنها عين باصرة لا تغفل عن احتواء المكان بما يحتضنه من آثار تاريخية ومعالم أثرية ، و( الصمان) بصيفها الشرس وصحرائها وأرض الّلهابة وواقعتها التاريخية ، تبدونباتات المكان وكأنها شخوص ماثلة واعية ، فهويتحدث عن شجر السدر التي يأوي إليها المتنزهون فرارا من شدة القيظ تنحدر من عائلة شوكيّة عطريّة يتوقف عندها الراوي واصفا يحيطها بهالة من الهيبة والوقار وكأنها أم رؤوم ، وإلى الغرب في مكة والطائف والحجاز ثم جبال السروات ومناطق الجنوب ووما تضمه من الاستراحات الليلية والخلوات الصحراوية ، ومن تخوم الرياض إلى أعالي وادي حنيفة.استحضار التراث وستنطاق التاريخ استحضر الراوي ( معاجم البلدان ) وتقمّص أسلوب المؤرخين القدامى والرحّالة والمستكشفين وفيض زاخر من الأماكن الأثرية والطبيعيّة مثل الأبار و(الدِّحل) ومشارب الإبل والمساجد التي تنتشر في الرواية ، ولايقتصر الأمر على الحيّز الأرضي ؛ بل يمتد ليشمل الحيّز العلوي : الكواكب والأفلاك، ف(الدكتورخزيمة)الشخصية في الرواية يتولّى الحديث عن الأجرام السماويّة والأبراج والشهب فيتحدث عن عطارد والزهرة وزحل والمشتري وأورانوس، هذا التعلق بالمكان أرضا وسماء وعالم الإنس والجن يعبّر عن فيض من مشاعر الانتماء ومحاولة الانفلات من حصار الحمّى عبر الانتقال الدؤوب بين المعالم الأثريّة الممتدّة على مساحة الجيولوجيا الموغلة في أعماق الأرض تحت إلحاح الحصار الذي فرضته الحمّى ؛ ألفة غير معهودة بين الإنسان والأمكنة والكائنات فرارا من هذا الزائر الثقيل المتطفّل على حياة الإنسان فجاء غازيا لجسده ، فكان الفرار إلى حضن المكان بوصفه أمّا حانية رؤوم . المكان في الرواية بما ينطوي عليه من معالم يشكّل مدخلا رئيسا من المداخل الدلاليّة في الرواية ، وكذلك الزمان الذي يتوزّع بين زمن تاريخي وآخر كونيّ وطبيعيّ ونفسيّ ، فثمّة تحديد بالشهر واليوم والساعة لأحداث الرواي واسترجاع لماضٍ اقتضته الوقائع الحاضرة بعد أن كان قد انزوى في ركن قصيّ من الذاكرة ، قد اصطنع مناهج الرحالة القدامى في وصف الأماكن والمشاهد والآثار ما يفضي إلى الإيحاء بمركزبة المكان في الرواية بما ينطوي عليه من أبعاد ثقافية واجتماعيّة وما يوحي به من مفاتيح دلاليّة تعين على فهم التحوّلات الحديثة في ضوء هذا العمق التاريخي والجغرافي الضارب في أعماق التاريخ . بناء النماذج والأنماط تتمحور الرواية حول جملة من الشخوص التي تمثل شرائح اجتماعية متنوّعة ، كما فعل حين قدم لنا الدفعة الأولى من رفاق الرحلة : ابن العم راضي الذي كان يقود المركبة في الرحلة الأولى ، ونادر العسكري المتقاعد ، ومحمد والراوي ، ويعمد إلى قراءة تضاريس وجوهها كما يفعل حين يصف الأمكنة ومعالمها ويتفرّس في ملامحها كما يتأمّل في ملامح الأرض التي يقصدونها فيصف رمالها بالحمراء والصحراء بالصفراء والكثبان المتحركة فتتحول هذه الشخصيات إلى قسمات مكانية ، وهويكرر وصف طقوس الرحلة التي تتعالق مع الشخصيات والأحداث والانخراط في الحفلات الجماعية بما يمارس فيها من ألوان الرقص والغناء فتتعاضد حواس البصر والنطق والسمع ، وتتقاطر مشاهد الإفطار والوجبات الأخرى وليالي السمر في نظام رتيب حيث المشاعر التعبديّة والوجبات البريّة وأحاديث السمر واستكشاف وارتياد مجاهيل المكان . التنوع والتعدد والاختلاف الشخصيات في الرواية تنهض بأدوار متعدّدة ، فهم رفاق في رحلة أوشعراءمعروفون يتم التعامل معهم بأسمائهم الحقيقية مع تحريف طفيف يلائم النهج التراثي في أدب السرد القديم وألوانه المتعددة في كتب التراث : أسلوب الرواية بذكر سلسلة السند وأساليب السرد ، فهويذكر راشد عيسى فيضيف كلمة آل إلى عيسى على سبيل المثال ، وأبونصار الدويهي وأبوالهيثم المسعودي وأبوالمجد عزيز العلي وأبوعلي شمس الرماني وأبوالبراء التهامي وأبونواف الحنفي وغيرهم الذي عمل على تقمّص أحدهم وتبنى خطاباتهم وأساليبهم، ولعله تقمص شخصية أبي الهيثم المسعودي فيما أحسب ، وعمل على أثراء دورهم قي تشكيل شعريّة الرواية من خلال المدونات التي اصطنع فيها أساليب السرد القديمة المسجوعة الحافبة بالبديع ، فكان العرض بأساليب متعددة تناصّ مع الخطابات التراثيّة القديمة وستحياءأزمنتهم وستحضار السياقات التاريخية من خلالهم فكان الزمن التاريخي إلى جانب خطاب الرحلة وأدبياتها تتوازى وتتقاطع من الخطاب السيري ، فضلا عن استدعاء السياق الزمني للأوبئة الفتّاكة في تقابل خقي وظاهر مع وباء الكورونا ، لقد استحدث الكاتب شبكة من التراسل والتداخل بين خطابات شتّى تنتمي إلى فنون أدبية متعددة في صيغ سردية وحوارية تجاوزت المألوف في بناء المقاطع الحوارية فجاء في سياق ضمني مع التاريخ والتراث والحاضر في تشكيلة متنوّعة من الأساليب . الأشخاص دوالّ وعلامات ثمة مستويات متعدّدة من الشخوص تتجاوز النماذج الاجتماعيّة والثقافية إلى أنماط تمثل دوالّا من العلامات التي تميز الحقبة والّلحظة الحضارية الراهنة تتمثل في أنماط متعدّد ة من النساء اللواتي يمثلن المرأة العربيّة الأصيلة، كتلك التي ذكرها (محمد) أحد الرفاق الأربعة للدكتور خزيمة في أحاديث السمّار ابان الرحلة الأولى (المرأة النجدية الأصيلة ) كما جاء على لسانه ، وأشار إلى النساء الخمس التي استرجعها من ذاكرته وهوطفل وقد ذكّرتنا بالثعابين الخمس اللواتي استخرجها رفيقه نادر العسكري من البئر في رحلته الأولى. اصطفاء واختيار لقد انتهى إلى اصطفاء اثنين من الشخصيات كان لهما دورهما الحاسم في الروية (الكتور خزيمة العبد الله) والدكتور حاتم) اللذين أصيبا بالمرض بعد استضافة أحد الرجال لهما في الطائف التي طافا بها ركنا ركنا ومعلما معلما ، فقد كانت المهد الذي تربى فيه الدكتور حاتم ، ولعل في اختيار الطائف دلالة ضمنية كامنة تفسرها الأنساق التي وردت فيها وجاءت فيها الأماكن الأخرى ، لقد كان الحشد للشخصيات مكافئا للمكان والتقصّي والتتبّع للأمكنة في الحاضر ومقارنته بما كانت عليه في الماضي لافتا، تجلى ذلك في نهايات العمل الروائي حين جعل من الطائف ساحة للأحداث يجوب معالمها ويتقرى تضاريسها ، وجعل من رفيق الدكتور خزيمة الدكتور حاتم (بوأيمن) وهما الشخصيتان الرئيستان اللتان استصفاهما الكاتب ليضعهما في بؤرة الحدث المحور . ثمة شبكات من العلاقات التي تربط بين الشخصيات في دوائر وحلقات تتشكل لتفضي بالدلالة متأزرة مع العناصر الأخرى، هناك أشتات مجنمعات من شأنها أن تعين على تشكيل البنية الدلالية التي تواجه الظرف الملابس لهذا الحدث ممثّلا في انحسار المكان وامتداد الزمان حيث اختلت المعادلة وهوما أحدثته الجائحة ، وقد جاءت المسألة الجندريّة (قضية النوع) لنكون في قلب الأثر الذي أحدثه الوباء على مستوى العلاقة بين النوعين في مؤسسة الأسرة والمجتمع. التبئير يقودنا ذلك إلى موضوع التبئير متمثّلا في السارد والمسرود له ، وقد اتضح أن حضور المروي له الداخلي يحتل حضورا كبيرا يتمثّل في توجيه الخطاب إلى المخاطبين الفاعلين والذات الفاعلة ، وفي مواضع أخرى يتحول الراوي إلى السارد العليم الذي يروي عن الغائب، وهوالملمّ بكل شيء يعلم أكثر مما يعلمه الآخرون ، غير أن الراوي المشارك الذي يعلم مايعلمه الآخرون كان طاغيا ، وذلك يتّسق مع طبيعة الموقف في الرواية ،وفي ذلك إشارة ضمنيّة إلى الحصار المحيط بالشخصيات الذي فرضته الجائحة ، ولذا احتّلت المقاطع الحواريّة الداخليّة حيّزا واسعا في الرواية. إن تعدّد المنافذ التبئيرية التي استثمرها الكاتب تحيلنا إلى مناخات الحصار التي استبدلت بالغياب القسري حضورا تراثيا وارتدت إلى الماضي تستنطقه ، واستبدلت بالحديث المعتاد فنونا وخطابات متعدّدة وتقمّصت الشخصيات التراثية في العرض ،وأما فيما يتعلق بالقصص القصيرة التي ضمّنها الكاتب في إطار البنية السرديّة ؛ فهذا اللون من ألوان القصص يعبّرعن لحظات التوتر والأزمات ، والكاتب عرف بهذا اللون من ألوان السرد ؛ فمن هنا كان اتكاؤه في تشكيل البنية السردية لهذه الرواية التي زخرت بالدلالات واحتشدت بالرؤى ، ومثل هذه العجالة لا تفي بحق هذه الرواية ؛ ولعلي عائد إليها في مقام أخر في المستقبل إن كان في العمر بقية .

مشاركة :