عزيزة جلال لؤلؤة الطرب المكنونة وأغنية «مستنياك»

  • 2/11/2021
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

سأحدّثكم عمّا فعلته بي أغنية « مستنياك» ذات سفر، حين أسرَت بي عائدًا بين ليلين على جناح الشوق.. لكن عليكم أن تنتظروا الحكاية بعد هذه المقدمة التي لا بدّ منها. في أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات، ومن وسط المدّ الغنائي المغربي الذي زحف نحونا باتجاه الشرق، متمثّلًا في عبد الوهاب الدوكالي وسميرة سعيد ونعيمة سميح، أطلّت علينا من وسط هذا المد موجته الأجمل؛ طربًا ونضارةً ونظارةً أيضًا، وأقصد تلك النظارة الأسطورية، التي أصبحت لها شعارًا يلمع، لمعة صوتها الطفوليّ المفعم بالنقاء والدلال المفرط، فما كان من الشرق الأوسط كله إلا أن يشخص لمقدمها، منبهرًا بتلك الفخامة الزّاحفة شكلًا ومضمونًا، صوتًا وصورةً، طربًا أصيلًا وحشمةً باذخة، ولم تكن تلك الموجة سوى البنت اليافعة عزيزة جلال، الاسم الذي سيسطع وسيتوهّج ثم لن يلبث أن يختفى بسرعة، وهو في أوج توهّجه وعطائه «وكذاك عمر كواكب الأسحار».. في غضون عقد من الزمان فقط، اختصرت عزيزة جلال عمرًا فنيًّا بديعًا، لتتوارى بعده عن الأنظار، تاركة خلفها إرثًا فنيًّا عظيمًا زاخرًا بالروائع، أصبح فيما بعد مدرسة ترتادها الأجيال اللاحقة. كان المد الغنائي المغربي يطلّ علينا عادة من المغرب أو مصر، كلامًا وألحانًا، باستثناء عزيزة جلال، المغربية الوحيدة التي أطلّت علينا بدايةً من الخليج، سواء في الكلمات أو اللحن، وتحديدًا من الإمارات، في ثلاث أغنيات خليجية، جميعها من ألحان الفنان الإماراتي الكبير جابر جاسم المريخي، الذي كان قد عاد من دراسة الموسيقى في القاهرة عام 1971. هذه الأغاني هي “ يا شوق هزيني هو الشوق”، كلمات الشاعرة الشعبيّة عوشة بنت خليفة السويدي، التي أطلق عليها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لقب ( فتاة العرب)، وقد شاعت وانتشرت هذه الأغنية خليجيًّا وعربيًّا، على ما فيها من عبارات يستغلق فهمها على غير الملم باللهجة الإماراتية، مثل “ ما تابع الدّلجين لاطفاق” أو “ بي من وداده باحث العوق”. وأغنية “ سيدي يا سيد ساداتي”، للشاعر الشعبي أحمد بن علي الكندي، والتي غناها أيضًا طلال مداح. وأغنية “ غزيّل فله” للشاعر الشعبي عتيق بن روضة الظاهري. تزامنت إطلالة عزيزة جلال علينا في هذه الأغاني الثلاث مع «ياك جرحي» لنعيمة سميح ، و«مرسول الحب» للدوكالي، و«الحب اللي انا عايشاه» لسميرة سعيد، مع أغانٍ مغربية أخرى أو تونسية مثل «جاري يا حمودة» لعليّة التونسية، أو جزائرية مثل «مشي اليوم قلبي حبك» لصباح الجزائرية، فكانت جميعها مثالًا للغناء الملتزم بالحشمة، والارتقاء بالذوق الفني السليم، بعيدًا عن كل ما نشاهده اليوم من استعراض مثير للغرائز، ولا علاقة له بالطرب.. كلّ ذلك كان قبل نكبة التلفزيون السعودي، التي أعقبت نكبة الحرم على يد جهيمان وجماعته. ويقفز بي الزمن قفزته المريعة إلى عام 2000، حيث كانت المرة الأولى التي أسافر فيها إلى عدن بمفردي وبالسيارة، كانت اليمن يومها قد فرغت للتو من الاحتفال بعيد الوحدة العاشر، الاحتفال الذي حضره الملك عبد الله بن عبد العزيز طيب الله ثراهما، وعلى طول الطريق إلى عدن كنت أستمع إلى أوبريت الحفل «خيّلت برقًا لمع» كلمات عباس الديلمي، الذي التقيت به بعدها عام 2013 برفقة شاعرنا الكبير عبد الله الصيخان، والملحق الثقافي السعودي الدكتور علي الصميلي، وما زلت أتذكر من كلمات ذلك الأوبريت: جباهنــا لا تنحني للظلم والطغـاه ومن ركـب غِــواه نترك عظامه تحت أقدام الجبال السود ترى أين ذهبت تلك الجباه التي لا تنحني، عن ظلم الطغاة المتمفرسين، الذين ركبوا غواهم، وما زالوا إلى اليوم يستبدّون باليمن وأهلها؟ سأعود إلى موضوعي.. في طريق عودتي من عدن التي لم أبت فيها سوى ليلة واحدة، قرّرت المبيت في الحديدة، لأني وصلت إليها بعد صلاة العشاء. نزلت في فندق الحديدة الذي لم أكن أعرف غيره، وكان معي مسجل صغير أحتفظ به دائمًا في حقيبتي، فذهبت إلى استريو التسجيلات الذي يقع في الجهة المقابلة للفندق، وفيه عثرت على نسخ وحيدة من أغنيتين لعزيزة جلال، لم أكن قد سمعتهما من قبل، “ مستنياك” و “ من أنا”، ولأن نسخهما لي كان سيستغرق وقتًا طويلًا، اتفقت مع صاحب الاستريو على أن أعود لأخذهما قبل موعد إغلاقه في الحادية عشرة ليلًا. في الفندق، بدأت السماع بأغنية “ مستنياك”، انتهت المقدمة الموسيقيّة ولا شيء في البال سوى الطرب، والغرق في لجّة من الاسترخاء، إلى أن بدأت عزيزة جلال تغنّي، ليبدأ معها على الفور ركض الغيوم وتوافدها إلى سمائي الخالية، فيتسارع نبضي، وتتّسع عيناي دهشة من ذلك التوافق العجيب لكلام الأغنية، مع وحدتي في البعد، وحالة الفقد الطفيف الذي استشرى فجأة، حتى أصبح وجه من أهواها وتنتظر عودتي، هو الذي يغني “ مستنياك”، هو الذي يقول لي: حبيبي .. مهما سافرت.. مهما بعدت ومهما غبت.. يا روحي عني .. قريّب مني مهما طالت رحلتك .. مستنياك .. قلبي معاك يا حبيبي في غربتك مستنياك يا روحي بشوق كل العشاق مستنياك تعبت تعبت من الأشواق مستنياك وانا دايبه يا عيني م الفرااااق حبيبي … حبيبي وغير مصدّق، رحت أسمع هذا الكوبليه أو المقطع وأعيده مرارًا وتكرارًا، وفي كل مرّة يتأكد لي أنّ هذه الأغنية إنما هي شأن خاص بي، تخصني وحدي من دون العالمين، وكأنه لا ينبغي لغيري سماعها، حتى أنني لم أكن أريد الاستماع لبقية المقاطع، خشية اشتمالها على كلام قد يزعزع يقيني المؤكد هذا.. وحتى الصوت الذي كنت أسمعه، لم يعد صوت عزيزة جلال، أصبح صوت تلك “ المستنياني” في البيت. كذلك صورة عزيزة جلال المخزّنة في البال، تلاشت وحلّت محلها صورة وجه لا ينتمي إلا لقلبي أنا.. أمّا الكلام فقد بدا لي وكأنه لم يُخلق إلا الليلة، ولا علاقة له بالشاعر عبد الوهاب محمد، سيما وقد جاء خاليًا من تعقيدات الشعر وبلاغات الشعراء.. باختصار لم تعد الأغنية التي أسمعها أغنية، بل أصبحت رسالة صوتية تصلني لحظتها. كانت مجازفة مني لا أكثر، حين قرّرت مواصلة الاستماع للكوبليه الثاني، ولك أن تتخيّل ما فعله بي، حين وجدت ذات الرسالة الصوتية تواصل ضراعتها، لتقول لي بمزيدٍ من الشوق واللوعة: للدرجة ديّا.. تغيب عليّا وتهون عليك دمعة عينيّا .. ويهون هواك خايفه الأسيّه .. تاخد شويّه.. من شوقي ليك حبيبي عمر البعد ما غيّر فيّا ولا فيه حد.. صان العهد.. وحفظ الود.. طول السفريّة غيري يا عنيّه.. يا غالي عليّه حبيـــــــبي وتعالى بكره.. ليلة والزمن ويّانا تعالى بكرة.. أحلى لما يتجدد لقانا مستنيّاك يا روحي بشوق كل العشاق مستنياك ونا دايبه يا عيني.. م الفرااااق حبيبي … حبيبي هنا بدأت أسأل نفسي وبصوت مسموع، وقد نسيت تمامًا أنّها أغنية ليس إلا: “ وليش بكره؟ لازم أرجع الليلة”. ثم عدت أقول لنفسي: “ احنا نصّ الليل، والسفر في هذا الوقت وأنا لوحدي وفي اليمن مخاطرة.. أرجع بكره أحسن”. كانت ثقتي في خصوصيّة الأغنية قد تعاظمت، حين استسلمت لفضولي، ورحت أستمع للكوبليه الثالث الأخير، الذي تجلّى فيه بليغ حمدي، وسرّع إيقاعه وكأنه يستعجلني، ويحثني على النهوض والمغادرة، إضافة إلى الكلام الذي غدا أكثر إلحاحًا وهو يطلب مني العودة، ويعمل على تبديد مخاوفي من السفر في ذلك الوقت من الليل: حبيبي تعالى .. تعالى تعالى بر الأمان بناديك .. ترسي عليه .. وترتاح في ظله حبيبي تعالى .. تعالى تعالى لقلوب هنا .. بتحس بيك .. وبتوهبك العمر كله ومع ذلك كنت ما أزال متردّدًا، حتى إذا بدأت تقول: أنا بسأل النجوم .. كل ليلة عليك وبكتب كل يوم .. غنوة شوق بتناديك وبحلّفك تجيني .. يا حبيبي وتناديني وساعتها حتلاقيني .. في لحظة بين ايديك وكفاااااااااايه طولت في بعادك .. زودت في عنادك وكفاااااااااايه الشوق يغنيلك.. يا تجيني يا أجيلك تعاله يا غالي.. نوّر ليّه الليالي وهكذا وجدتني أنهض لا إراديًّا، ودون تردّد أجمع أغراضي وأغادر الفندق عائدًا.. لم أشعر أبدًا بالخوف، وقد وهبت الطريق والليل كله من حولي للأغنية الثانية “ من أنا”، وللسنباطي وللشاعر إبراهيم عيسى، لا يرافقني على ذلك الطريق الطويل، سوى صوت عزيزة جلال يشقّ سكون الليل، مترنّمًا بما يشبه الصلوات: أهواك يا قَدَري وأهوى أن يطول بنا السفر وأعيش فى عينيك أيامي وأستبق المنى وتهيم أشواقي ولا أدري بقربك من أنا رحم الله رجل الأعمال السعودي الشيخ علي الغامدي، الذي ظفر بقلب لؤلؤة الطرب المكنونة عزيزة جلال، وإن كان بزواجه منها قد تسبّب في حرمان الأذن العربيّة الشغوفة بالطرب الأصيل، من صوت تفرّد بلمعته الفاخرة، وفسيفسائه التي لم ولن تتكرّر.. وحفظ الله السيدة عزيزة جلال ومدّ في عمرها، وإذا قُدّر لها أن تقف العام القادم على مسرح مرايا العلا في شتاء طنطورة، فأتمنى عليها أن تفاجئنا بأغنية جديدة، شريطة أن تليق باسمها وتاريخها، مع علمي بأنها أمنية صعبة المنال، لصعوبة العثور على ملحّن اليوم، يكون في مستوى العمالقة الراحلين الذين تغنّت بألحانهم. رابط الأغنية https://www.youtube.com/watch?v=2b9RtTwNXIc&t=88s

مشاركة :