اللعب بالمصطلحات بين الراديكاليين واليسار

  • 2/17/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

دعونا نتوقف لحظة لشرح السبب وراء شعوري بالانزعاج لأننا على ما يبدو استقر بنا الحال على اختيار كلمة «تمرد» في وصف ما حدث في مبنى الكابيتول الأميركي في السادس من يناير (كانون الثاني). أو ربما لا يكون سبب انزعاجي صياغة الكلمة، وإنما الراديكالي الصميم المنتمي لسبعينيات القرن الماضي الذي ما يزال قابعاً داخل روحي الليبرالية المتحررة.وبادئ ذي بدء ليس لديَّ أدنى نية لإنكار أن الحشود الغاضبة التي اجتاحت مبنى السلطة التشريعية تورطت في تمرد. من جانبهم، يعرف القائمون على قاموس أكسفورد للإنجليزية مصطلح «تمرد» باعتباره: «الانتفاضة بحمل السلاح أو المقاومة العلنية ضد سلطة قائمة أو قيد حكومي». والمؤكد أن مهاجمة قلب السلطة التشريعية بالبلاد في محاولة لإلغاء نتيجة انتخابات يتوافق مع هذا التعريف.وعليه، فإن ما يزعجني ليس اللفظ في حد ذاته، وإنما ما يثير قلقي هو تداعيات استخدام هذا المصطلح على جهود فرض القانون والنظام. والتساؤل الذي يفرض نفسه هنا: متى قرر من يطرحون أنفسهم كتقدميين أن حركات التمرد دوماً سيئة؟ودعونا نبدأ بالمثال المضاد الواضح، ذلك أن الانتفاضات التي نفذها العبيد خلال القرنين الـ18 والـ19 كانت حركات تمرد دون أدنى شك. ومع ذلك، لم يجعل هذا من هذه الحركات خطأً. وطالما أن المرء لا يؤمن بأن العنف ليس مناسباً للدفاع عن أي قضية على الإطلاق، فإن الانتفاضات العنيفة المسلحة التي نفذها من جرى استعبادهم بالقوة ينبغي الدفاع عنها، وليس التنديد بها.بالتأكيد هذه ليست مقارنة. وأنا هنا لا أقصد الدفاع عن أعمال الشغب التي أتى بها أنصار ترمب والتي أدت بنا إلى اللحظة الراهنة. إنني ما أزال أذكر، بكثير من الود، الفترة التي كان اليسار خلالها أكثر دقة، وكان يتمسك بوجهة نظر مفادها أن أعمال العنف، حتى عنف التمرد، ينبغي أن تقاس ليس تبعاً لمعيار القانون والنظام، وإنما وفقاً لمعيار الوسائل والغايات.ودعونا نتأمل عقد ستينيات القرن الماضي، فأثناء إجرائي بحث عن رواية تدور أحداثها في تلك الفترة، أدهشني مدى الصراحة التي كان يناقش بها الراديكاليون آنذاك خيار العنف. وفي مذكراته التي حملت عنوان «انتحار ثوري»، وصف زعيم «حزب الفهود السود»، هيوي بي. نيوتن، أعمال الشغب التي وقعت في ذلك الوقت داخل مناطق حضرية بأنها جهود من جانب المظلومين في المناطق الداخلية من المدن «لتحرير المناطق التي يعيشون بها». واعتبر أن هذه الجهود مضللة لأن الظالم دائماً ما يستجيب بقوة أكبر مما يستطيع المتظاهرون مواجهته. إلا أن هذا النقد انصب فحسب على الجوانب العملية. وأثارت لغة نيوتن، مثلما كان الحال مع لغة الراديكاليين الآخرين في تلك الحقبة، الشعور بأن إسقاط النظام بالقوة، إذا ما امتلك الفرد القدرة على تنفيذ ذلك، سيكون أمراً جيداً.ومن المؤكد أن المنخرطين فيما كان اليسار يسميه «انتفاضات» فهموا هذا الأمر. وفي مطلع عام 1968. نشرت دورية «عالم السلوك الأميركي» دراسة استقصائية حول مجتمع أصحاب البشرة السمراء داخل لوس أنجليس أجريت بعد أعمال الشغب عام 1965. ووصف 38 في المائة ممن شملتهم الدراسة الاضطرابات باستخدام «خطاب ثوري» - من بينه لفظ «تمرد» - وكانوا يستخدمون هذا المصطلح على نحو يوحي بتأييدهم لما حدث، وليس معارضته.وفي أوساط الراديكاليين في الستينيات والسبعينيات، كانت هناك أرضية مشتركة تقوم على فكرة مفادها أن بعض موجات التمرد كانت أكثر مساواة عن غيرها. من جهته، اعترف المنظر اليساري العظيم هربرت ماركوز، في رسالة بعث بها إلى صديقه ثيودور أدورنو عام 1969 بأن الطلاب المحتجين في الجامعات بمختلف أرجاء البلاد أظهروا القليل فقط من وميض الوعي الثوري الحقيقي. ومع ذلك، أثنى عليهم لأن انتفاضتهم أثبتت انهيار الهيمنة الرأسمالية التي نشأت في ظلها. وفيما يخص الادعاء بتورط الطلاب في أعمال عنف، حث ماركوز أنصار تيار اليسار إلى التمييز بين أمرين: «يجب أن نتحلى بالشجاعة النظرية التي تمكننا من عدم الربط بين عنف التحرير وعنف القمع».بعبارة أخرى، ليست كل حركات التمرد سيئة.وفي الآونة الأخيرة، استخدم الكثير من أبناء اليسار - بينهم النائب ماكسين ووترز - كلمة «تمرد» لوصف الاضطرابات التي وقعت في لوس أنجليس عام 1992 بعدما قضت هيئة محلفين بإطلاق سراح أفراد من الشرطة واجهوا اتهامات بالاعتداء في فضية رودني كينغ.ولم يقصدوا ذلك كنقد.ودافع مقال استفزازي نشره عام 1993 الخبيران القانونيان كيمبرلي كرينشو وغاري بيلر عن استخدام لفظ «تمرد» في وصف ما حدث بعد صدور الحكم، لأنه يشكل تحدياً للمفهوم «التقليدي» بأن العدالة العرقية تعني نهاية «التمييز» وتحقيق المساواة الرسمية والاندماج في المجتمع المهيمن.وفي شرحهما لسبب وراء هذا الاعتقاد، طرح كرينشو وبيلر آراء تحمل أصداء آراء نيوتن على النحو التالي: «بدلاً عن النظر إلى العدالة باعتبارها تعني تعامل الشرطة مع المواطنين على نحو يعكس عمى ألوان كامل لا يميز بين أصحاب لون بشرة معينة عن غيرها، فإن الاهتمام بتوزيع السلطة بين المجموعات يركز على شرعية تولي المجموعة المهيمنة إدارة «المستعمرة» في المقام الأول.موجز القول أنه مرت فترات من قبل رأى خلالها اليسار الأميركي ضرورة الدفاع عن عنف التمرد. أما اليوم، تلاشى هذا التركيز على الهدف من وراء التمرد بدلاً من طبيعة العمل الذي يجري تنفيذه على الأرض. وربما يبرر ذلك السبب وراء أنه كان من النادر استخدام مصطلح «تمرد» على الاضطرابات التي أعقبت مقتل جورج فلويد أثناء احتجازه من جانب شرطة مينيابوليس.النقطة الأهم هنا أنه بدلاً من محاولة إثبات أن المظاهرات كانت خالية من العنف، فإن تيار اليسار الذي ساد خلال فترة شبابي كان ليعلن احتفاءه بتنامي الوعي في صفوف أولئك الذين يتخلصون بالقوة من سلاسل وقيود القمع ويسعون نحو إسقاط النظام القائم. ورغم أن العناصر الراديكالية التي كانت موجودة في هذه الحقبة لم تدافع عن أعمال العنف التي تخلو من التمييز، فإنها رفضت الفكرة الصارمة المرتبطة بالقانون والنظام وترى أن المظاهرات العنيفة سيئة دوماً دونما استثناءات.وأؤكد مجدداً على ضرورة ألا يسيء أحد فهمي هنا، فأنا لا أقصد أن العنف أمر جيد في حد ذاته، وإنما أرى أن استخدام لفظ «تمرد» باعتباره تعبيراً موجزاً عن «استخدام العنف من أجل القضية الخطأ» يعتبر تشويهاً لتاريخ نظر في إطاره اليسار إلى الانتفاضات العنيفة في بعض الحالات باعتبارها استجابة مفهومة ومبررة ضد قمع ممنهج.والمؤكد أن هذا المعيار لا ينطبق على مسألة خسارة انتخابات، بجانب أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال تبرير أعمال عنف حرض عليها رئيس الولايات المتحدة. كل ما أتمناه أن نطرح الأمر بهذه الصورة.*بالاتفاق مع «بلومبرغ»

مشاركة :