كل مخلوق خلقه الله تعالى إنما خلقه لغاية, لأنه لا يخلق خلقه عبثاً ولا يتركهم بعد خلقه لهم هملاً, وقد بيّن الله تعالى لأحد تلك المخلوقات وهو أعظمها وأكرمها على الإطلاق عنده – الإنسان – الغاية من خلقه فهو الذي قال الله تعالى فيه: ” ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً “ الإسراء 70 ، وقال عنه أيضاً: ” وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون “ الذاريات 56, فأوضح سبحانه تكريمه للإنسان كمخلوق عن باقي جميع المخلوقات, ثم بيّن الغاية من خلقه, ومن يتأمّل في ما تقدّم يدرك أن هذا التكريم الذي حصل عليه ابن آدم من خالقه جل وعلا يجب أن يُقابل بتقدير عظيم منه وإجلال كبير لخالقه. ومن أهم صور ذلك التقدير والإجلال أن يدرك الإنسان قيمة الحياة التي يعيشها ويستلذها في أحايين كثيرة بمُتَعِها ولذّاتها, وأن يستشعر أيضاً الغاية من وجوده فيها ولماذا أوجده الله بين طيّاتها وبيئاتها وأجوائها وظروفها؟, فإذا أدرك ذلك كلّه استطاع أن يعمل على أن تكون حياته تلك حياة كريمة تقابل تكريم الله له, وأن تكون استجابته للسير نحو الغاية من خلقه تبعاً لمقصود الله من ذلك الخلق, وحينما يحصل منه كل ذلك يشعُر فعلاً بأنّ عليه أن يتعلم وبشكل مستمر كيف يعيش حياته عزيزاً كريماً, صالحاً مصلحاً, عالماً عاملاً, صاحب عطاء في كل شيء, وكيف يسجّل له سِفْراً من الإنجازات والعطاءات, وكيف يبني له في كل ميدان موقفاً مشرفاً وحديثاً ملهماً, وكيف يصنع من نفسه قدوة في الحق والخير والصلاح والإصلاح, بل عليه قبل ذلك كلّه ..أن يتعلّم كيف يحيا ؟ إن حياة الإنسان في الدنيا لا تتكرر البتّة, وحياته ميدانه ومنبره ومعمله ومصنعه ومتجره وبيئته ومجتمعه, وهي – أيّ حياته- إن لم تكن سلّماً له للانتصار على نفسه وهواه وشيطانه, وللرقي إلى معالي الأمور وقمم الهمم, وإلّا هوت به وبكل ما يملك من أفكار وقدرات إلى هوّة الهاوية, وإن لم تكن خطوات الإنسان في حياته متّجهة نحو رضى الله تعالى وليس بعد رضاه إلا الجنة بفعل كل ما أمر به وبترك كل ما نهى عنه بإخلاص وصدق وحسن اتباع وإلّا كانت له مزلقاً خطيراً إلى سوء المصير والعياذ بالله, وإن لم يكن الإنسان مُدركاً لقيمة الحياة وكونها لا تتكرر ولأنها ميدان العمل فلا شك أن عاقبته من عدم الإدراك ذلك سيوقعه في دوائر الندم والتحسّر, ومادام الأمر كذلك وأحسبه أمراً خطيراً يستحق الوقوف عنده بكل مشاعر صادقة وتركيز دقيق ومن ثم قرار جاد.. فإنّ على الإنسان أن يتعلّم فعلاً كيف يحيا, نعم, عليه أن يتعلّم كيف يحيا بأن يكون له وأثناء عيشه لحياته ( حَيَوَات ) أخرى داخل الحياة الأم. ( حَيَوَات ) تجعله أكثر قربا من الله تعالى وأعمق معرفة بنشأته وسيرته ومآله, وأصدق تحرّكاً نحو كل قيمة كريمة ونيّة سليمة, وأوضح طريقا ًلمعرفة ذاته وأخلاقه وسلوكياته, وأقوى عزيمة عند الشدائد والصعاب والأزمات التي تواجهه, وأوسع حكمة في كلامه ورأيه وتجاربه, وأتقن تعاملاً مع كل مجتمع يعيش بين أفراده وجماعاته. وحتى نعرف بعض تلك الـ ( حَيَوَات ) التي تُعلّمنا كيف نحيا أذكر بعضا ًمنها وأحسب فعلاً أنها من الأهميّة بمكان, لأن من بيننا وهم كُثر للأسف الشديد لم يعيشوا حياتهم الحقيقية كما يجب عليهم أن يعيشوها فخسروها، ولمّا كانت هي خسارتهم الأولى خسروا الثانية وهي خسارتهم للآخرة, وما أثقل خسارة الآخرة وما أمرّ هزيمة العبد فيها. أقول إنّ من أهمّها وأعظمها عبادة العبد لربه العبادة الحقة فعبادته حياة أخرى يشعر فيها العبد بحلاوة القرب من الله تعالى وبلذة مناجاته وبمتعة الوقوف بين يديه وسؤاله وتلاوة آياته والعمل الذي يعمله إخلاصاً لوجهه وابتغاءً في مرضاته, حياة إيمانية يشعر فيها العبد بطمأنينة في قلبه وسكينة في جوارحه ورضىً بما قدره الله عليه وقسمه له. ومنها تمسكّه بالأخلاق الكريمة وبالقيم النبيلة والمثل السامية واعتزازه بها وتعامله مع غيره من خلالها فهي كذلك حياة أخرى يعيشها, يجد فيها احتراماً منه لشخصه لأنه هذّبها بتلك الأخلاق وصقلها بتلك القيم وزكّاها بتلك المثل, ويجد فيها أيضاً احترام الآخرين له لأنّه بادلهم بتلك المعاملة الحسنة ذلك الاحترام فكان له الإجلال والتقدير منهم والمكانة والمنزلة بينهم, ويجد فيه أيضاً سلامته من سيء المواقف وترفعه عن سيء الأخلاق لأنه استطاع أن يحمي نفسه من كل ذلك لمّا عاش حياة الأخلاق الكريمة. ومنها سعيه الدؤوب وإقدامه الحثيث نحو إصلاح مجتمعه وأمّته من خلال دعوة أفراد ذلك المجتمع وكيانات تلك الأمة إلى كل خير وفضيلة, وهذه حياة كريمة لأنه يعيش فيها فضل الإصلاح وعظم الدعوة إلى الله كعبادة يتقرب إلى الله من خلالها ويضع نفسه قدوة لغيره في الخير ومؤثراً لهم بالعمل الصالح والنافع, مع ما في هذه الحياة من تعب وجهد ونصب إلا أن كل ذلك لا شيء مقابل هداية فرد في مجتمع أو صلاح كيان في أمة. وبإمكانك أن تضيف على الأنواع الثلاثة من أنواع ( الحَيَوَات ) أنواعا ًأخرى تعتقد أنك تتعلم من خلالها كيف تجعل من حياتك الحقيقية حياة مليئة بحيوات أخرى تنعم في العيش بها وتستثمرها حق الاستثمار فتفوز بأجري الحياة الدنيا والحياة الآخرة. إن من يعيش تلك ( الحَيَوَات ) والتي تأتي ضمن الحياة الأم تتكون له الشخصية المتّزنة المنضّبطة والتي تعيش تلك ( الحَيَوَات ) المختلفة لتشكّل جميعها مشروعا ًمتكاملاً في جوانبه وحيثياته, فحياته الإيمانية تتعلق بكل ما بينه وبين ربه من عبادات وطاعات وإيمانيات وغيرها, وحياته الأخلاقية تتعلق بكل ما بينه وبين أخلاقه وقيمه ومثله في العناية بها والسعي للتمسّك بها والمحافظة عليها, وحياته الدعوية تتعلق بكل ما بينه وبين مجتمعه وأمته من جهة سعيه لئن يكون صالحاً في نفسه مصلحاً لغيره, وأن يستشعر قيمة رسالته وأهميّتها, وحاجة كل من حوله له ولدعوته, ومدى الأثر العظيم الذي يتركه في الناس من سعيه الإصلاحي وعمله الدعوي بينهم. وكما قلت: الحياة واحدة لن تتكرر وهي ميدان لكل ما تستطيع تقديمه وبذله وأنت لازلت تتنفس فاملأها بـ ( حَيَوَات ) كثيرة تعيشها جميعها بكل اعتزاز بربك ودينك وبكل تمسّك بأخلاقك وقيمك ومثلم وبكل بذل وعطاء وإصلاح ودعوة لمجتمعك وأمتك.
مشاركة :