قبل أكثر من أربعة عقود كتب عبد الرحمن الصالح سيناريو الفيلم الكويتي بس يا بحر. وكانت تلك صرخة مؤجلة أطلقتها أرامل من ابتعلهم البحر أثناء رحلات صيد اللؤلؤ الشاقة ، لكن البحار على ما يبدو لا تشبع من لحوم البشر ولا يغرقها بكاؤهم، فهي منذ أقدم الأزمنة استدرجت مهاجرين ومغامرين وبحارين تائهين. ومن شاهدوا واحدة من فضائح هذا العصر وهي جثة الطفل إيلان التي تقاذفتها الأمواج حتى ألقتها على الشاطئ بكامل ثيابها وبراءتها وصمتها الأبيض، لابد أنهم رددوا صدى تلك الصرخة وهي بس يا بحر، فالمتوسط أصبح متطرفاً في عدد الغرقى، بل تحول قاعه إلى مقبرة، وأصبح الأطفال العرب والأفارقة وجبات دسمة لأسماك القرش ووحوش الماء. لقد تضاعفت في الآونة الأخيرة أعداد المهاجرين ، بل الهاربين من الجحيم عبر البحر إلى ما يتوهمون أنه الفردوس الموعود لا المفقود. كم من هؤلاء يصل مع الأمواج وكم هو عدد الذين يبتلعهم البحر؟ وإلى متى سوف تستمر هذه التراجيديا الزرقاء المضمخة بخيوط الدمع والدم؟ أليس هذا كله حصاد الشقاء الذي عصف بهذه المنطقة تحت أسماء وعناوين مضللة؟ فالحرية المنشودة تحوّلت إلى قبور جماعية في أعماق البحر، والعدالة تم تحقيقها، وهو المساواة بين الناس في الفقر والخوف والهجرة والموت غرقاً. الطفل إيلان اسم حركي لطفولة مهدورة وإنسانية مستباحة حتى النخاع، حيث لم يعد هناك مكان آمن يمكن النوم فيه باستغراق غير القبر، سواء في قاع بحر أو في أقصى العالم. هذا العبء الأخلاقي لا يقوى على حمله فرد أو جماعة أو حتى دولة، فالبشرية كلها تتحمله، بدءاً من الذي خطط وحرض وسلح حتى الذي تحوّل إلى مخلب للتنفيذ، مادام المطلوب في النهاية هو خريف عربي يعج بالأطلال والخرائب وتنعق فيه الغربان بدلاً من أن تزقزق فيه العصافير. والمطلوب أيضاً إبقاء الحال على ما هي عليه بحيث نراوح أعواماً وربما عقوداً في المدار المظلم ذاته. إن مئات الآلاف من البشر يصرخون الآن معاً وبصوت واحد: بس يا بحر.. لكن البحر غادر وأطرش والأساطيل التي تصول وتجول فيه لا تسمع استغاثات الغرقى.
مشاركة :