تمر العلاقات العربية الأمريكية بمنعطفات ومنحنيات كثيرة، إلا أنها سرعان ما تستقيم بفعل عودة الرشد المفقود إبان الحملات الانتخابية التي يدغدغ بها المرشحون مشاعر الناخبين بشعارات راديكالية جوفاء. إلا أن الأمر فيما يبدو مع الإدارة الديمقراطية الحالية قد يأخذ مزيدا من الوقت للتعافي بسبب عدد من العناصر أهمها هي: هياكل وأطياف تكوينها، اللغط والجدل الذي أثير حول نتائج الانتخابات، طغيان أفكار الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، المواقف الدولية المسبقة التي أعلن عنها بايدن طيلة فترة الانتخابات، والتي حتما سوف تصطدم بإرادات زعامات وقوى دولية وازنة لها تأثيرها الإقليمي والدولي وبما يفوق تأثير الرئيس الأمريكي نفسه. عجيبة هي أطوار السياسة الأمريكية، التباينات بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي، تجسدها فظاظة الرئيس السابق دونالد ترمب، ومهادنة الرئيس الحالي جو بايدن الذي يقتفي خطى الرئيس الأسبق باراك أوباما حتى في مداهنته للعرب والمسلمين. فجميعنا يتذكر خطاب أوباما الشهير في جامعة القاهرة عام 2009، الذي استهله بالبسملة «بسم الله الرحمن الرحيم» وتم الترويج له في حينه على نطاق واسع خصوصا بين جماعة الإخوان أنه الفاتح بأمر الله، ولم يحد نائبه السابق الرئيس الحالي جو بايدن عنه في دغدغة مشاعر العرب والمسلمين عندما استخدم جملة «إن شاء الله» في مناظرته مع ترمب إبان الحملة الانتخابية العام المنصرم. اللعب على الوازع الديني وتأجيج المشاعر والعواطف جزء من أدوات وألاعيب السياسة تستخدم حول العالم، خصوصا وسط الجماهير المحدودة الثقافة تارة، والمؤدلجة تارة أخرى، والمجتمع الأمريكي غير المسيس والمولع بالتغيير، والخاضع لتأثير العامل الديني والعرقي بشكل كبير نموذج للتسطيح واللامعقولية. لا يحتاج المرء كثيرا من التعمق والجهد كي يلحظ بلا عناء أن ممارسات الحزب الديمقراطي الأمريكي في الواقع تأتي دائما عكس شعاراته، شأنه في ذلك شأن النظام الصفوي في إيران الذي يعتمد «التقية» فريضة دينية ويزعم إنَّ تسعة أعشار الدِّين فيها، ولا دين لمن لا تقيَّة له، هذه هي عقيدة آيات الله في قم وطهران، وهكذا هو ديدن الفئة الحاكمة في إيران منذ انقلابها على حكم الشاه محمد رضا بهلوي فيما سمي بالثورة الإيرانية عام 1979م، لذا ليس غريبا ولا مفاجئا التقارب بين النظام الإيراني «الفارسي» والحزب الديمقراطي الأمريكي «اليساري» الذي تتشكل قواعده على أسس عنصرية وعرقية وطائفية، تتصادم مع قيم العالم الجديد الذي يدعيها قادته، في الوقت الذي يمارسون فيه الاستعلاء على شعوب ودول ارتضت طواعية نظم حكمها، وتتعامل أنظمتها معها بواقعية تراعي الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتنموية والمرحلية، التي هي بالضرورة تختلف اختلافا حديا عن أنماط الحياة الأمريكية والأوروبية، وتنطلق من قواعد ثقافية وعقائدية وبيئية مغايرة، فلن نكون في عالمنا العربي أشباها لكم، ولا نرضى لشعوبنا صاحبة الإرث الحضاري والعمق التاريخي، ولا هي تقبل بأن تكون مسخا لمجتمعات لم تخرج بعد من مرحلة الطفولة التاريخية، أو بالكاد على وشك أن تدخل فترة المراهقة حيث الاضطراب النفسي والسلوكي. ولمن لا يعرف فإن المملكة المغربية هي أول دولة في العالم اعترفت بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1777 أي، بعد عام واحد من إعلان الاستقلال عام 1776، أي قبل 245 عاما فقط، (ما يعادل ربما عمر أحد المعمرين في الصحراء العربية) وفي العام التالي، وقعت معها معاهدة صداقة، لا تزال سارية المفعول وتعد أقدم معاهدة دولية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وقد كتب جورج واشنطن خطاب شكر إلى «إمبراطور» المغرب (سماه إمبراطور بدلا من سلطان) يشكره فيه ويعده بأن تكون الولايات المتحدة ذات المستقبل الواعد حليفا مهما له على مر السنين. استحضار هذه الصفحة البالغة الأهمية في تاريخ العلاقات العربية الأمريكية الآخذة في التغير والتبدل، والتي لا تعترف إلا بصيرورة قوة الدفع الناجمة عن تطور المصالح، ورسوخ عناصر التشابك في المجالات كافة، أراه مهما في هذه الحقبة بغية تصحيح مسار العلاقات العربية الأمريكية. صحيح أن مياها كثيرة جرت في المحيط الذي يفصل بيننا وبين أمريكا، وأن توازن المصالح والقوى اختل لصالحها في سبعة العقود الماضية، بفعل عوامل صنعتها وعززتها أمريكا لإضعاف عالمنا العربي، بعد أن عودتنا شأنها في ذلك شأن كل الإمبراطوريات التي اندثرت عبر التاريخ، بأنها لا تعبأ بالعلاقات التي لا تقوم على المعادلات المتساوية. في العالم العربي وخصوصا في السعودية ومصر والإمارات التي تتعرض لهجمة من الإدارة الأمريكية الجديدة التي لا تراعي المصالح الحيوية، ولا ترتكز على منظومة العلاقات الوطيدة التي تأسست بين الملك عبد العزيز والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، فيما سمي باتفاق كوينسي في 14 فبراير 1945، ولا تستند إلى مبادئ القيم الدولية الراسخة التي قامت عليها هيئة الأمم المتحدة عند تأسيسها في 24 أكتوبر 1945م، يقينا لازلنا نمتلك من العناصر الراجحة التي تجبر إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على ضرورة تصويب حساباته الخاطئة التي تميل تجاه إيران التي ما فتئت تصف بلاده بـ«الشيطان الأكبر»، ويرفع قادتها صباحا ومساء شعارات الموت لأمريكا، فلا يجب علينا أن نترك الفضاءات الواسعة أمام هذه الإدارة «الغشيمة» لتلهو بالعلاقات الأمريكية العربية كيفما تشاء، وتطيح بها في الهواء الطلق قربانا لملالي إيران، وإرضاء لمطاريد الإخوان. علينا وقبل فوات الأوان أن نفتح حوارا مباشرا معها وننبهها بحزم وثبات بأنه لا ينبغي لها تجاهل العلاقات العربية الأمريكية التي استقرت لأمد طويل على ثوابت: النفط العربي، الصراع العربي الإسرائيلي، التحديات الدولية، التعاون في مواجهة التطرف والإرهاب، فرض الاستقرار العالمي، إعلاء القيم الإنسانية في مواجهة دعاوى الانحطاط، التفاهم والحوار المستمر. إن المستقبل لأمتنا العربية، المستقبل لقيادتها الشابة الجسورة التي لا تأبه إلا بكل ما يحقق لشعبها أمنه وأمله وتنميته.
مشاركة :