ليس سهلاً أن تقف ممثلاً أمام ميريل ستريب، أصبحت هذه الجملة من البديهيات، لكنها بالفعل فرصة لكل شخص سيقدم له السيناريو ليكون جزءاً من الوقوف أمامها، على الأغلب يعي الفنان المُخاطر أهمية هذه الخطوة في تاريخه الفني، يكفي أن يذكر أنه مثّل يوماً أمام أكثر الممثلات احترافاً على قيد الحياة مثلما يصفها كثيرون، هو يدرك، ذلك الفنان أنها ستطغى عليه، بحيث أنك كمشاهد ستخرج من الصالة أو تقفل التلفاز ولا تذكر من الفيلم سوى الحرفية والإبداع اللذين قدمتهما ستريب، في أي مكان وأي دور ومع أي مخرج ستتفوق هذه الرائدة دائماً، وستترشح للأوسكار دائماً وستفوز وسيتم تكريمها دائماً. في فيلمها الأخير الذي يعرض في دور السينما المحلية ريكي آند فلاش استطاعت ستريب في دور ريكي أن تقدم نموذجاً ليس له علاقة بدورها كمغنية روك هجرت عائلتها لأجل تحقيق حلمها في غناء هذا النوع فحسب، بل هي قدمت أبعد من ذلك بكثير، بعداً تلمسه بين سطور الحكاية وليس بالمباشرة التي ارتبطت بعلاقتها مع طليقها وأبنائها الثلاثة، خصوصاً عندما تحجز أول طائرة للعودة الى مدينة يعيش فيها كل هؤلاء، الذين يشكلون لها الماضي الذي أرادت بملء إرادتها ألا يكونوا جزءاً من حاضرها، هي عادت لأنها علمت بجرح قلب ابنتها التي طلقها زوجها، هي الأم في هذه المرحلة أو في هذه المعضلة، لكنها ما زالت تخرخش من كمية القلادات التي ترتديها والجلد اللاصق على جسدها وشعرها المتطاير بكل مكان، والوشوم التي تملأ جسدها، هي كل هذا، في كل تفصيل بشكلها الخارجي، وكل تفصيل يخرج من مشاعرها استطاعت بالفعل أن تتجاوز مسألة النص، بأن تقدم بعداً له علاقة بالحلم، علاقة بالعائلة وعلاقة الأجيال ببعضها والتغييرات التي طرأت منذ تغير الذوق في سماع الموسيقى، علاقتها مع ذاتها وكل المشاعر المتضاربة، علاقتها مع جسدها وعاطفتها، علاقتها مع معنى الوطن أيضاً. الفيلم مبني على قصة عادية جداً، لكن قوة الحضور لدى ستريب هي من جعلت له قيمة، على الأقل أنت من الممكن أنك شاهدتها سابقاً في فيلم موسيقي ماماميا لكن هذا الفيلم ليس موسيقياً، هو يلمس روح الموسيقى التي لها علاقة بالطموح، بالتمرد، بكل ارهاصات المراهقة واتخاذ القرارات، بفترة اتخاذ القرار بعد انجاب الأبناء، هو بالفعل يحكي قصة أميركا لكن بشكل مختلف، يحكي بداياتها وهبوطها وصعودها وخياراتها، يوجد الكثير من التلميحات فيه خصوصاً في قرار اختيار رئيس البلاد، الذي يرتبط بذهن الأميركيين بقدرته على تحسين القرارات والموافقة على قرارات خطرة مثل تشريع زواج المثليين. كلاين وسباستيان ستان ومامي جومر، من الصعب ألا تستمع فيه، خصوصاً مع كمية الأغاني التي تؤديها ستريب بنفسها، هي اثبتت أنها صاحبة حنجرة ايضاًوأداء قد ينافس مطربي الروك آند رول أنفسهم، تنقلك بين أغاني الماضي والحاضر بإحساس اشبه بترنيمة روحانية، أنت من السهل عليك كمشاهد أن تشاهد نفسك وأنت ترقص معها، تضحك معها، تحاول أن تحزن معها ايضاً، هي غنت الكثير في هذا الفيلم مثل، American Girl لتوم بيتي وDrift Away لدوبي جرايو Bad Romance لليدي غاغا، كل هذا الأداء كان بحضرة المغني والممثل ريك سبرينجفيلد، ومن أجل ذلك تعلمت ستريب العزف على الجيتار لتستطيع الوقوف الى جانبه، وعملياً وجودهما معاً هو الوحيد الذي حقق التناغم المطلوب ضمن أغلبية مشاهد الفيلم. وللحديث عن تفاصيل الفيلم بشكل ايجازي، الذي يبدأ معها وهي على خشبة مسرح في مقهى، الحضور فيه بسيط، لكنه على ما يبدو نوعي، ومع ذلك هي تلاحظ وجود بعض الأعمار الشابة وتحقق رغبتهم في غناء بعض الأغاني الحديثة، علاقتها بشريكها (غريغ) في الفرقة التي تتكون من فنانين كبار في السن ومن جيلها، علاقة متوترة، ينتقل رتمها إلى الكمال بعد أن تعطي نفسها فرصة لتحب مرة أخرى، فتحبه هو، شعورها دائماً بالتقصير حاضر، وله علاقة برنين الهاتف الذي لا يتوقف لأيام من قبل طليقها الذي تتهمه بأنه السبب هو وزوجته في ابعادها عن ابنائها، هي ربما تكون حجة لتشعر بنوع من راحة الضمير، أو أنها الحقيقة بعينها. هذا الشعور بتناقضاته وعدم قدرتك على لمس الجانب الصحيح منه، يعتيرك طوال فترة مشاهدتك الفيلم، أنت لا تستطيع لومها لكنك ربما تستغرب أنها تركت عائلتها الغنية جداً، وذهبت للغناء في المقاهي البسيطة، هي لم تحقق الشهرة المطلوبة، وأبناؤها يعرفون ذلك، حتى إنهم لا يشاركونها صفحتها في فيس بوك، هي اذا أرادت أن تغني فقط، لم تسع للشهرة، هي أرادت التمرد، لكن لا تعرف على ماذا؟ هي أرادت الاستقلالية حتى لو أنها لا تملك ثمن سيارة الأجرة التي نقلتها من المطار إلى منزل طليقها، هي أرادت التفرد، بعمرها الستيني تغني ليلاً في مقهى وفي الصباح تقف على الكاشير، وكل هذا منوط بها وحدها، وكل هذا يسقط بمكالمة هاتفية ترددت في الإجابة عنها، وعندما قررت الرد تجدها تحجز اول تذكرة للوقوف الى جانب ابنتها التي طلقت حديثاً. رنين الهاتف المتواصل من قبل طليقها لاجئاً لها لمساعدته في محنة ابنتهما، خصوصاً أن زوجته في زيارة لوالدها المريض، لم يكن سوى حاجة لوجودها، لإكمال نقص يدعي كماله عندما قرر تطليقها، هو يدرك كل تفاصيل ريكي، هو أراد أن يراها وهو يعي أنها تعلم ذلك، حجة ابنته كانت قوية، خصوصاً أنها فعلاً استطاعت أن تحدث تغييراً في نفسيتها كإخراجها من المنزل، ذهابهما الى صالون التجميل، اقناعها بعدم ذهابها الى الطبيب النفسي وتفويت جلستها العلاجية، هي لا تؤمن بكل هذا، هي تؤمن بالحياة الموجودة أمامها، التي بها الكثير من الجمال، لكن دورها ينتهي بمجرد عودة زوجة طليقها، التي ربت أبناء ريكي الثلاثة، بطريقة تقليدية، جعلتهم حتى في خياراتهم لشركاء حياتهم تقليديين، ريكي تدرك أنها بعيدة عن أبنائها حتى جشوا الذي تشعر بحنيته عليها لم يكن يريد أن تعلم أن زواجه قريب، هي أرادت بمواجهة مع زوجة طليقها أن تؤكد أن زوجها مازال يحبها، كي تشعر بنوع من انتصار كبرياء ربما، وفعل في مشهد جمعها معه بعد أن اقنعته بتناول الحشيش الموجود في منزله ويدعي أنه لعلاج الصداع، والحقيقة أن وجود هذه العشبة في منزله ما هو إلا ارتباط بلحظات الجنون معها، اقترب منها ووضع رأسه على حضنها كأنه يستجدي منها شيئاً من ذلك الجنون القديم الذي لم يعد موجوداً في حياته التقليدية جداً. التفاصيل كثيرة في الفيلم، لا تستطيع مسك خيط فيها وترك الآخر، هي عادت الى المقهى الصغير، اعطت فرصة لنفسها لتحب غريغ، اختلفت حياتها كلياً بعد ذلك، الصعود والهبوط اصبحا جزءاً من حياتها التي تعيشها باللحظة، دون التفكير بالغد، تغيّر رتم حياتها الجديدة مع حبها الجديد، وصول رسالة من زوجة طليقها تدعوها لحضور زفاف ابنها، يبيع غريغ جيتاره المفضل ليبتاع ثمن التذكرة، هو الذي وقف أمامها في مشهد سابق، وقال فيه لا يهم أن يحبك أبناؤك المهم أن تحبيهم أنت يذهبان بمحاولة فاشلة في التأنق لا تتناسب مع المجتمع المخملي لحياة ابنائها، كل هذه المظاهر تسقط عندما تقرر ريكي أن تنحي الفرقة التي تغني على مسرح عرس ابنها وتصعد هي وفرقتها الطاعنة في السن، ترتبك، هي لأول مرة ستغني أمام عائلتها، هم سيسمعونها ويشاهدونها، تذمر في القاعة، تصد ريكي سماع وقراءة وجوه المتذمرين، تغمض عينيها لحظة وتنطلق بصوتها وجنونها وهي تمسك الجيتاروكأنها تمسك العالم بين يديها، هذا العالم المتأنق الذي يشاهدها لم يقاوم وقع الموسيقى ولا الكلمات العميقة، يبدأ الرقص العروسان، فيتشجع الجميع، تغني أكثر وترقص أكثر وتهتز أوتار جيتارها وجيتار غريغ أكثر، هي استطاعت أن تؤكد لكل من وقف أمام حلمها أنها اخيراً انتصرت. لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.
مشاركة :