إضاءات في المجموعة الشعرية الحديثة ليقظان الحسيني الشاعر العراقي في آخر نتاجة الشعري «شاهدا أردت أن أكون»، وهو شاعر عراقي له العديد من الإصدارات الشعرية منها ذاكرة الفصول، ألوح بقلب أبيض، أساور من أسى.. وقد كلل إنتاجه بديوان شعري رابع أسماه «شاهدا أردت أن أكون» ويتضمن خمسين قصيدة عن دار الفرات للثقافة والأعلام سبتمبر 2020. لوحة الغلاف للفنان بشير مهدي، كلمة الغلاف للدكتورة سهير أبو جلود، بورتريه الصورة ناديا داوود. شاهد على الحياة كما الموت، شاهد على الوطن، شاهد على يقظان، شاهد على الشعر من أوله حتى آخره! يقظان الحسيني شاعر ببعد وجودي يستفيض بتجربة أدبية بالغة لإثراء الحركة الشعرية في عالمنا العربي. يسرد القصيدة بأسلوب بلاغي خالص يواجه الخسارات فترتسم صوره وتتوالى بقصد تركيبي جاد يحدد بنية النص بكل وضوح. تأتيك نصوصه بقصد إثباتي دامغ متراص لا يستند إلى التركيبة بل يعمل على التوسع في امتدادات اللغة بمكنوناتها وصمودها نحو الأزل. شاعر تشهد له قصائده عن تجاربه الإنسانية المحتدمة تعقيدًا وقسوة لا سيما في إهدائه لروح أخيه حيدر حتى صار يتمه لا رماد يقدر أن يهذيه. (شاهدا أردت أن أكون) يتدفق إليك، يقترب بيقظان من حافة الموتات المتعددة، موتات يكاد لا ينجو منها ولكنه لا يخشاها.جراح ما كانت يوما ما الفجيعة ولكن أقسى ما فيها أنه يكتنزها ويوثقها كي لا ينسى. فالفجيعة دامت له لتكون أثقل من كل الموازيين لديه، بل هي ما جعله يدرك اليقين وسط دورانه وعزفه المتفاوت بين الريح والدمع وجمرات صوته الممطرة كأنها دليل وسط الطرق الملتفة إليه، كأنها لجام يطبق عليه ولا يخلص منه. يأتيك منفردًا من النصوص الأولى حتى آخرها! لا يجتهد في درء المواجهة بل يتوجه بالحياة كأنه قوافل جيوش يقظة تسير نحو الحلم وهو المتهدج ببحة صوت هتافها تشريني، حناجرها طاحونة أوتارها الحرية ومنابعها نبض العراق المدمى. يتصاعد بذاته يرتفع بالضوء عله يتحرر به إليه. أشرعة هي القصيدة الأولى بل هي الشاهد الأول عما أورثته الحياة، أورثته أسلحة ساكتة هي صمته المستكين، فتراه يخوض حروبا، عله يسترد أبوته المعلقة، شاهدًا وحيدًا لا يجد حوله من يجرؤ على نصحه وهو الذي يتساءل عن السبيل إلى التحرر من عقد إسقاطها متشابك لا يتجرأ أن يخيطه يعلق وسط خوف لا يدرك كيفية تبديده ليخرج عنه شامخا كدودة قز أرهقها طي الأجل!أشرعة/ هي أسلحتي الساكتة/ ورثتها على مهل/ لا فوهات لها وخضت حروبي/ لا أقرع سخونة المواقف/ من يجرؤ على نصحي؟/ لأسترد أبوتي/ المعلقة على أعمدة/ كيف أفك شباكا/ ليس لها رخاوة الخيوط/ أيصدأ الخوف/ أم يتمكن من اللحاق/ بطيات الأجل/ أنا الأبي/ نسجت دود القز/ حرير أشرعتي.أفق يقظان هي قصيدة يصبو فيها إعادة تشكيل الوجهات بفعل إرادي واعي بالرغم من قلق الاحتمالات. أفق هي ضوؤه الأرق الذي لا يقدر أن يعبر به الى السماء إلا بمخاض. يستحضر أصواتا، يعيد ترتيب جهاته، يستنبط عشبا يعبد به الطريق، يمهد لعيش أكثر طراوة، ثم ما يلبث يكتشف أن الأفق ليس سوى سور معلق وعبوره يقتضي الأجوبة لا محال!مخاض وضوء/ أجنحة واحتمالات/ بياض حلم اختفى/ بين الطية الأولى للسماء/ والأخيرة/ جسور الهمس/ يتفتق منها السراب/ وينفق بيسر/ أصوات تذوب/ وجهات تتشكل/ يبوح لها العشب/ يعلق الأهلة/ أزمنة وأسئلة/ تقصده القوافل/ هو الأفق السور.يأس قصيدة تتصاعد فيها الصور بانتقائية تجعله يرسم بالصوت القشة وهي تقع. يبدأ النص حذرا هادئا يستميح لونا له بقوله «أستمحيك لونا أريده» وهو الذي يدرك البوح المتعدد الألوان وأنه وإن فقد رعشة البدء فلا مفر له من أن يتلوى بالوجوه العابرة ليستدرك ذاته في مسار الخطى المسمرة. كأن ارتباطه بكل الانعطافات أعمق ما يتربص به فيصل إلى حالة شلل في قوله «بلا رعشة للبدء بأسى» يحاول بيأس أن يستعيد الحركة بالنسيان استحقاق لا تدبر فيه!سبل/ بالجنون/ غمسنا كل شيء/ فآثرتنا السبل باختياراتها/ دون إيماءة منا. سبل هي جنون يمتد إليه دون ومضة السبل هي التي تختاره ولا يختارها في اختراقه إليه! أي قدر هذا يا يقظان؟ أي قدر يحيق بك يسير بك يفقدك القدرة على التعليل حتى تتآكل فيه أحياؤك؟ أي سبل جعلت من نمل البلاد تأكل كل شيء فتسير بنا القوافل ولا نسير بها وهي التي تأكل البلاد وتجعل منهم جياعا. لعل خاصية التوظيف التصويري هي أسلوب يقظان الأكثر حضورا في قلمه دون أن يستثني انفعالاته أو ينقص منها، فتجده حاضرا يعايش أهوال الحرب بكل مآسيها، يستنبط أحداثا إنسانية يحكم توثيقها يستفرد على مهل في مكنوناته. لا تتوقف اللغة بين يديه عند حد ولا تتلاشى مفرداته وسط ركام الحرب وفظائعها بل تحثه على السير في قوافل أكثر عمقا لا سيما في عباراته: تسير القوافل/ وترمي بفتات أيامنا/ خلف متاهة ليس لها/ رأس نملة من نمال البلاد/ وهو يأكل أحيائنا/ بم التعلل؟/ كي لا تلين عريكة أوصالنا/ الجوع يقرع طبوله/ ثم تعلن عن نفسها/ حرب أخرى/ بالتجهم واجهنا السبل/ وبصهيل مأزوم/ له دم من ندم. ها هو ينبثق من تحولات المواقف ومتغيراتها المتوالية في عيشه إلى شاهد على فداحة الخسارات لحروب لا يد له فيها ككل العراقيين. ينسلب وجوده بارتطامات تتداخل بحزم به!طرق أول/ نطرق الأرض بالخطى/ فتسمعنا نبضا/ سرى إلى شغافها/ نلوح بيد مرتعشة/ فتقف لحظاتنا مكتوفة الأيدي/ الوهلة الأولى للبريق كانت لنا/ ثم يقول: كي نعود إلى بداية أخيرة/ إلى وجهة أولى/ نلبس جلودا خشنة/ لنرتع في ذات الصراخ/ وذات الطرق. يأتي بخطاه يستحضر النبض وإن يرتعش! يوقف اللحظات لعل البريق سبيل خطاه. يستجدي البدايات كأنها وجهته الأولى بانفتاح يعيد له الإحساس بمعنى أن يكون! يدرك أن الكون غير ثابت وأنه اختصارات البعث بكل أجزائه.الوقت أس البدايات/ ينبوع نهاياتها/ كائن غريب/ يجري على أطراف أصابعه/ من علمه الكرات؟/ يا لحمى شهواته/ المسامير تعصف في الجوف، الوقت عنده كائن غريب له القدرة أن يعيد الكرات يدور بها على نفسه يتسلل إليه على أطراف أصابعه لا ملاذ فيه! الوقت عنده كتمان يقوس ضلوعه. شهوات تعصف في جوفه كمسامير تحدد النهايات. الوقت عند يقظان فتنة المخيلة وحالة مستقلة خارجة عن أي نمط تقليدي في فهم الوقت! لا عبثية في اللغة هي استيطان وسط كل الرهانات!الوقت عند يقظان يبدأ ولا ينتهي! يستحضره يوثقه يريد أن يكتمل به كي يرمم شواغل الروح والجسد. الوقت يبدده ولا يتبدد! تلك الانكشافات هي أسبق ما يعصف به إليه. يقظان يبتدع القصيدة بتكثيف شديد تاركًا المجال للمتلقي في إدراك المعنى بانفتاح لا تحده قوالب جاهزة ولا حدود ثابتة.
مشاركة :