ينتمي مصطلح «القوة الناعمة» على المستوى التاريخي إلى مطلع التسعينيات من القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبروز القوة الأحادية القطب المتمثلة في الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بعد انهيار حلف وارسو الذي كان تحت الزعامة السوفييتية، وكان السياسي الأمريكي جوزيف ناي هو أوّل مَن صكّ هذا المصطلح للتعبير عن الحالة الراهنة للعالم، ليتغلغل هذا المفهوم بعد ذلك داخل الأدبيات السياسية، ويصبح واحداً من أهم المؤشرات في تقييم الأداء وتفحّص مواطن القوة لدى الدول، وهو في جوهره رديف لمعنى قوة النموذج، وجاذبية الثقافة والحضارة، وأثر القيم والمبادئ في عملية التقدم فضلاً عن معايير المصداقية والالتزام التي تشكّل إحدى أهم الركائز في التقييم بحيث تصبح القوة الناعمة عامل جذبٍ يجعل الآخرين ينظرون للدولة على أنها نموذج للإلهام والاحتذاء، من خلال برامجها وسياساتها القادرة على التأثير في الآخرين، وهي من جهةٍ أخرى الوجه المقابل للقوة الخشنة، فقد تتفوق الدولة الأقل قوةً من الناحية العسكرية على الدولة القوية عسكرياً من خلال مسارات أخرى ربما تكون في سلعة تجارية أو علامة بيع شهيرة، أو نموذج سيارة متفوقة، أو غير ذلك من مظاهر القوة الناعمة التي أصبح لها هيمنة في العلاقات الدولية، وربما كانت هي الحاسمة في ميزان العلاقات بين الدول المتنافسة. في مثال رائع وعميق الدلالة يستلهم صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبيّ، رعاه الله، ثنائية القوتين الناعمة والخشنة من خلال مثال في غاية البساطة والروعة في حديثه عن التنافس المشروع لتحقيق النجاح حين ذكر في كتابه الرائع (رؤيتي: التحديات في سباق التميّز): أنه مع إطلالة كل صباح في إفريقيا يستيقظ الغزال مُدركاً أنّ عليه أن يُسابق أسرع الأسود عَدْواً وإلا كان مصيره الهلاك، في إشارة من سموّه إلى أنّ الغزال لم يواجه الأسد بالقوة الخشنة فهو لا يستطيعها، لكنه واجهه بالقوة الناعمة التي تتجلى في مضاعفة سرعة العَدْوِ، وعلى الرغم من بساطة هذه الصورة المنتزعة من الحياة الطبيعية إلا أنها صادقة الدلالة على أنّ القوة الناعمة قد تتفوق على القوة الخشنة حتى داخل مملكة الحيوان المفتقرة إلى التفكير والتخطيط، والخاضعة لنظام الغريزة، فكيف يكون الأمر بالنسبة للإنسان الذي ينعم بطاقة خلّاقة من الفكر والتخطيط والتنفيذ. اليوم، تتبوّأ الإمارات العربية المتحدة مكانة مرموقة بين الدول المتحضرة من حيث توظيف القوة الناعمة في الإدارة، فقد احتلت المرتبة السابعة عشرة من بين 105 دول، مع الفوز بالمرتبة الأولى على مستوى الإقليم، وبخصوص معايير الاستجابة لجائحة كورونا كانت الإمارات ضمن أفضل خمس عشرة دولة على مستوى العالم في مواجهة هذا الوباء الذي عجزت دول كثيرة في العالم المتقدم عن التعامل معه، واستفحل في مواطنيها بطريقة لافتة لا تخلو من الدلالة على ضعف الإجراءات الوقائية والصحية التي تستلزمها مواجهة هذه الجائحة الخطيرة. ولأنّ القوة الناعمة تقوم في طبيعتها على تحقيق عنصر الجاذبية للآخر، فقد فازت دولة الإمارات العربية المتحدة بالمركز التاسع على المستوى العالمي وفق مؤشر القوة الناعمة، محققة تقدماً بمقدار ثماني مراتب عن العام الماضي، وذلك بسبب ما تحظى به هذه الدولة النشيطة المتحضرة من اهتمام الإعلام العالمي بها، والإشادة بما تتمتع به من استقرار اقتصادي، وشيوع الأمن والأمان داخل المجتمع، فضلاً عن التأثير الملحوظ في الدبلوماسية العالمية. إنّ تحقيق هذه المراتب المتقدمة على المستوى العالمي ضمن مؤشرات القوة الناعمة هو في جوهره رسالة واضحة المحتوى ترسلها الإمارات لجميع شعوب العالم خلاصتها: أننا سنبقى على هذا النهج الفاعل من التواصل القوي مع جميع دول العالم، وأنّ رؤية الدولة تقوم على تمتين العلاقات الاقتصادية والتنموية مع الشعوب والدول دون تحيّزات ثقافية أو عرقية، فالإمارات وطن يحتضن جميع من يُحبّ الإمارات ويعمل من أجل تقدمها ورفعة شأنها، لأنها لا تنظر لنفسها دولة منفردة في هذا العالم بل تنظر للعالم كله منصهراً في دولة تأكيداً منها على التلاحم الإنساني في سبيل التقدم العام الذي يعود بالخير والنفع على الجنس البشري كله. طباعةEmailفيسبوكتويترلينكدينPin InterestWhats App
مشاركة :