في الشهر السادس من العام 1970، أي قبل 45 عاماً، رحل عن دنيانا أحد كبار عازفي القانون العرب في القرن العشرين (وهناك من يعتبره أكبرهم)، العبقري محمد عبده صالح (1906-1970). والده كان عازف الناي الشهير عبده صالح. ولما لاحظ لدى ولده محمد ميلاً واضحاً إلى الموسيقى، واتجاهاً نحو آلة القانون، عهد به تلميذاً لدى صديقه العقاد الكبير، أكبر عازفي القانون المخضرمين بين القرنين التاسع عشر والعشرين. وما إن بلغ محمد عبده صالح سن العشرين، حتى كان قد انطلق في القاهرة العصر الذهبي الذي تربع فيه على عرش الغناء الرجالي محمد عبد الوهاب، والنسائي أم كلثوم، بعد أن أنهت عصر كل من منيرة المهدية، وفتحية أحمد. لذلك، كان من الطبيعي أن نستمع إلى قانون محمد عبده صالح، في تسجيلات كل من عبد الوهاب وأم كلثوم، في عقدي العشرينات والثلاثينات. وفي بداية العام 1937، انطلق في إذاعة القاهرة الموسم الشهري لحفلات أم كلثوم الحية، كل أول يوم خميس من كل شهر، فشكلت أم كلثوم فرقتها الدائمة بقيادة أستاذها في ذلك الحين الموسيقار وعازف العود العبقري محمد القصبجي، لكن عازف القانون المنفرد في الفرقة، كان وظل حتى آخر أيامه، محمد عبده صالح، وعازف الكمان المنفرد كان وظل حتى وفاة أم كلثوم (عام 1975) أحمد الحفناوي. في عهدها الأول، كانت قيادة فرقة أم كلثوم الموسيقية، معقودة اللواء لعود محمد القصبجي. لكن بعد أن دب الخلاف الفني الكبير بينه وبين أم كلثوم على أثر ألحانه في فيلم عايدة، في مطلع الأربعينات، أخذت العلاقة تتراجع بين الاثنين، وكان القصبجي في مطلع الخمسينات قد تقدم به العمر، وأصيبت ذاكرته الفنية ببعض الوهن، فرأتها أم كلثوم مناسبة لنقل قيادة فرقتها الموسيقية من القصبجي إلى العازف الأكثر شباباً وحيوية، محمد عبده صالح، الذي بقي قائداً للفرقة، وعازفاً للقانون المنفرد فيها، حتى صيف العام 1970، قبل توقف الفرقة، وتوقف أم كلثوم عن الغناء، بسنوات ثلاث. يعتبر محمد عبده صالح بين الكلاسيكيين من كبار عازفي القانون المعاصرين، فقد نشأ على العزف على آلة القانون عندما كانت بلا عُرب حديدية للتغيير بين المقامات، لذلك فإنه عندما انتقل للعزف على آلة القانون الجديدة، ذات العرب، كان متمكناً من تقنيات العزف، وتحولت آلة القانون إلى قطعة من جسده. ومع أن محمد عبد الوهاب كان كثير الاستعانة بمحمد عبده صالح وقانونه في العشرينات والثلاثينات، فإن اتجاهاته التجديدية في التلحين والغناء، دفعته إلى الاستعانة بقانون كامل إبراهيم ثم عبد الفتاح منسي (شقيق عازف الكمان الشهير أنور منسي)، لكن ذلك لم يمنع عبد الوهاب من العودة أحياناً إلى الاستعانة بقانون محمد عبده صالح في بعض أغنياته ومعزوفاته، كلما كانت طبيعة اللحن تتطلب ذلك. كان طبيعياً بعد ذلك أن يتم اللقاء بين قانون محمد عبده صالح وألحان محمد عبد الوهاب، عندما بدأ هذا الأخير يلحن لأم كلثوم من العام 1964 حتى العام 1973. ومما لا شك فيه أن حصيلة محمد عبده صالح في العزف المنفرد العبقري على آلة القانون، توجد أكثر ما توجد في ألحان زكريا أحمد ورياض السنباطي لأم كلثوم (مثل مونولوج غلبت أصالح في روحي). ولا شك أيضاً في أن مرحلة ترؤس محمد عبده صالح لفرقة أم كلثوم الموسيقية، كانت من المراحل الذهبية لهذه الفرقة، كما نشاهد ونستمع في تسجيلات حفلات أم كلثوم الحية.
مشاركة :