يمكــــن النظـر الى فيلـــم «على حلة عيني» – من إنتاج فرنسي تونسي بلجيكي إمـاراتي مشترك - كفيلم غنائي عن بعض مبــــررات قيام الثورة التونسية، أو بمعنى أدق، عـــن المناخ الذي ولدت فيه تلك الثورة، إذ تــــدور أحداثه في صيف عام 2010، أي قبـــل فترة وجيـــزة من اندلاع الثــورة، وفيه ترسم المخرجة الأجواء السياسية والإجتماعية الخانـــقة التـــي ميزت النظام السابق تحت حكم بن علي بكل ما في ذلك من رقابة ومنع وحصار لن يستبعد قتل الأحلام لو استلزم الأمر. وعلى رغم أنه منذ أول أغنية بالفيلم والتي تعبر كلماتها عن مناهضة القهر السياسي وشبح الفقر والمعاناة، يمكن المرء أن يتوقع ما سوف يحدث لاحقاً للبطلة الشابة الجميلة ذات الصوت الآسر القوي، فإن هذا التخمين لن يضعف من جمال الفيلم والاستمتاع به، بسبب الطريق الذي اتبعته المخرجة الشابة ليلى بوزيد – ابنة المخرج التونسي الكبير نوري بوزيد - في تحريك شخصياتها وبناء التفاصيل وتراكمها، وأسلوبها في معالجة فكرتها والتي تشاركت في كتابتها مع ماري صوفي شامبون، من دون أن يخلو الفيلم من بعض الارتجال حيث منحت بوزيد فرصة للممثلين كي يعبروا عن أنفسهم وعن إحساسهم بالشخصيات التي يجسدونها. خيط متين يأتي في مقدمة أطراف الحكاية الفتاة المراهقة فرح البالغة من العمر 17 سنة والتي انتهت للتو من الثانوية العامة والمغنية الأولى في فرقة موسيقى الروك، قامت بدورها بيه مظفر وهي ممثلة غير محترفة كما انها ليست مغنية أساساً ولكنها خاضت تجربة التقدم لمعهد الموسيقي في طفولتها. تشكل فرح الخيط المتين الذي يربط جميع حلقات وحبات العُقد، سواء في علاقتها بأمها حياة – أدتها المطربة غالية بن علي- أو في علاقتها بكل من حبيبها عازف العود برهان – قام بدوره منتصر العيارى - وبقية أعضاء الفرقة الموسيقية التي تنتمي إليها والتي تضم 5 ممثلين موسيقيين غير محترفين، وكذلك والدها الغائب دوماً بسبب عمله في مدينة تونسية آخرى وغير القادر على نقل مقر عمله بسبب رفضه الانتماء للحزب المنتمي للنظام، والخادمة التي تبث قدراً من الكوميديا الخفيفة في ثنايا الفيلم والتي تسعى الأم من خلالها الى مراقبة ابنتها وتتبع أخبارها لكن الخادمة لا تبوح بأي من أسرار الابنة، إلى جانب ظهور الحبيب القادم من ماضي الأم والذي أصبح أحد أفراد النظام السياسي والذي يعيد التواصل معها لتحذيرها من تورط ابنتها فيما سيجلب عليها المشاكل بعد أن أصبحت تحت المراقبة. من خلال علاقة الحب بين فرح وبرهان والغريم المراقب لهما تبدأ المخرجة أولى لقطات شريطها السينمائي بسلاسة وهدوء وتكوين جمالي واعد، يليه مشهد لقاء الابنة بأمها القلقة بسبب تأخرها. ثم سرعان ما نكتشف أثناء البروفة صوت فرح المتفجر بالحياة، المتمرد، الرافض للقهر والحرمان، الثائر على الأوضاع، والمعبر عن شخصيتها المتأججة الراغبة في اختبار كل الأشياء المثيرة والبهجة كالغناء والحب والشرب والخروج والسهر في البارات مع زملائها ومخالطة الغرباء والبسطاء. مع ذلك لا يجعل السيناريو منها شخصية مثالية. فهو يكشف إزدواجيتها وتناقضها حين تحنث بوعودها وتكرر الكذب على والديها حتى تحقق ما تريد من رغبات موسومة بالجرأة وعنفوان الشباب والقسوة أيضاً، فهى لا تتورع عن حبس أمها وإغلاق الباب عليها بالقفل حتى تتمكن من الذهاب إلى حفل الفرقة الذي منعتها من الذهاب إليها. مستويات رمزية ليس في الفيلم أحداث كبيرة، هناك فقط فتاة تعبر عن نفسها بالأغاني الثورية المناهضة للنظام الديكتاتوري القائم فيتم القبض عليها وتعذيبها وانتهاك جسدها في مشهد يعتبر ذروة الفيلم حيث نجحت المخرجة بمهارة وحساسية كبيرة أن تبث فينا الألم والإشمئزاز رغم أن المتلقي لا يرى شيئاً لكنه فقط يشعر ويحس. ورغم أن الحكاية بسيطة لكنها تحمل بين سطورها وفي أعماقها مستويات عديدة من الرمزية، ليس فقط من خلال أغانيها السياسية العديدة - ألفها غسان عمامى ولحنها خيام اللامى – الكاشفة لما يدور في المجتمع التحتي والوسط الغنائي والمنبئة بثورة قادمة لا محالة، ولكن أيضاً من خلال رسم الشخصيات بدءاً من شخصية فرح التي تحمل قبساً من اسمها، المُعبرة عن جيل ثوري مفعم بالأحلام والآمال والرغبات، رافض للقيود وساعِ لتحطيمها حتى لو تعرض للجرح أو السقوط، وهي في الوقت نفسه رمز لتونس التي يتصارع عليها الجميع ويريد أن يمتلكها وأن تخضع له حتى لو أهانها، مروراً بشخصية الأم «حياة» المحافظة والتي تمثل نموذجاً آخر للسلطة القهرية، فهي تخطط لمستقبل ابنتها على غير إرادتها، وتريدها أن تدرس الطب بدلاً من الموسيقى وأن تكف عن الغناء، لكن «حياة» لا تبقى شخصية جامدة طوال الشريط السينمائي إذ ينجح صناع العمل في تطويرها – بشكل غير مفتعل - في النصف الثاني من الفيلم عندما تحاول ألا تفقد ابنتها فتقترب من عالمها وتتواصل معها برقة بالغة، محاولة أن تكسر حاجز الصمت الذي حاصرها في أعقاب خروجها من السجن. أما شخصية الأب فلا تُجيد الدخول في المشاحنات إذ أنه يسعى فقط للتهدئة مثلما فعل مع ابنته ليحل الاشتباك والصدام الواقع بينها وبين والدتها، لكنه يمثل سلطة آخرى ظالمة إذ لم يمنح العمال أجورهم أو مكافأتهم فانفجر غضبهم المتأجج في مشهد سريع كالبرق، قد يبدو عابراً، لكنه مؤثر ويكمل رسم البورتريه لبلد كانت على سطح صفيح يغلي. إضافة إلى مشاهد آخرى تكشف ما كان يدور في أعماق هذا البلد من توترات واضطرابات كان لا بد لها أن تنفجر ذات يوم، مثل تلك اللقطات التي تشي بالاختلافات والخلافات في الفرقة الموسيقية وتكشف أن أحدهم يتجسس عليهم لحساب البوليس، وذلك رغم التباس الموقف في ما يتعلق بشأن برهان والذي يجعلنا نتساءل، هل حقاً كان يتعاون مع الشرطة، وهو الذى أبلغ عن فرح؟ أم أن صديقها المغرم بها الذي كان يمسك بالكاميرا دوماً ويسجل كل تحركاتهم؟ أم أن الأخير فقط وشى ببرهان ليتخلص منه معتقداً أنه يزيح العقبة الراسخة في طريقه إلى قلب فرح؟ يعتبر «على حلة عيني» الذي يشارك في هذه الأيام بإحدى تظاهرات مهرجان البندقية، الشريط السينمائي الأول الطويل لمخرجته بعد ثلاثة أفلام قصيرة حصل أحدها «زكريا» 2013 على جائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان أبو ظبي السينمائي، كما عرض في مهرجان «كليرمون فيران» الدولي للأفلام القصيرة في فرنسا. أما عملها الطويل الأول فيتميز بإيقاع متوازن - مدته 102 دقيقة - بدت فيه ليلى بوزيد قادرة على ضبط الزمن النفسي لأبطاله، ربما باستثناء تلك الدقائق الأخيرة التي أعقبت اغتصاب فرح على أيدي السلطة في مشهد عالٍ في قسوته الفنية، إذ جاءت النهاية أضعف، لكن الفيلم – على بساطته - يتميز إجمالاً بقوة التعبير السياسية عن الحياة اليومية في تونس ما قبل الثورة، مثلما تتميز لقطاته بالحيوية والجاذبية البصرية، خصوصاً أثناء تجوال الكاميرا كأنها عين أبطالها فتلتقط صورا للمجتمع التحتي في تونس بوجوه الفقراء المطحونين والمقهورين في الشوارع والبارات ومواقف السيارات.
مشاركة :