الفيلسوف والباحث الألماني المعاصر يورغن هابرماس Jürgen Habermas الذي يعد أباً للديمقراطية الألمانية الحديثة، المولود في فترة ما بين الحربين سنة 1929، أي عام الأزمة الاقتصادية العالمية، من عائلة بروتستانتية، ويعد من أهم الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة المعاصرين. هابرماس الذي تقاعد سنة 1993 بعد مسيرة زاخرة من العطاء العلمي والدراسات والبحوث والتآليف التي جعلت منه المنظِّر المطوِّر لمدرسة فرنكفورت الفلسفية وأباً للديمقراطية الألمانية الحديثة، هابرماس الذي تقاعد من العمل الأكاديمي ليستقر في ألمانيا مسخِّراً خبرته وحياته للبحث العلمي، وبناء نظريات في مجالات الفلسفة وعلم الاجتماع والسياسة، مستثمراً وقت الحجر الصحي بقضاء الساعات الطوال أمام الكمبيوتر يتدبر العلوم التي تهتم بتاريخ الفكر. هابرماس كغيره من رجالات العقل الألماني في عصره تتلمذ على يد نخبة من الفلاسفة المؤثرين من بينهم هوركهايمر وتيودور ادرنو وغادامير وكارل لويث، فكان سليلاً لمدرسة فرنكفورت العريقة في الفلسفة، وبحكم كونه وريث عقل فلسفي ألماني عريق، فقد كان بمثابة التراكم المرجعي لبناء خلفيته الفكرية والذي يمكن حصره في المجالات التالية: أولاً: الفكر الفلسفي العقلاني الألماني، وهنا نتحدث عن الكانطية نسبة إلى إيمانويل كانط، وهنا لا يمكن أن نغفل دور هذا الرجل في ترسيخ الدرس الأيبستيمولوجي الذي يعنى بإعادة النظر في العلوم وتقييمها من خلال توافر تراكم معرفي يمكِّن من إعادة تقييم العلوم وإعادة بنائها وتحديد مسارات جديدة لها، فالعلم قد يكون وليد أخطائه، والتفحص في المسارات المنهجية قد يعطي نتائج علمية مغايرة، ومن دعامات الفكر الفلسفي الألماني فريديريك سيلنغ وهيغل وهوسرل ومعلمه غادامير؟ وثانياً: التقاليد الماركسية مع كارل ماركس ذاته والماركسية الجديدة لمدرسة فرنكفورت مع معلمه هوركهايمر وادرنو هربيرت ماركيز. وثالثاً: علم الاجتماع الألماني ومن ركائزه إيميل دوركهايم وماكس فيبر وجورج ميد، ورابعاً: فلسفة اللغة ومن أسسها فيتغنشتاين وأوستين وكلود ليفشستراوش وتولمان وجون سارل وعلم نفس الطفل جان بياجاي ولوران كولبارغ، وخامساً: الفلسفة البراغماتية مع شارل ساندرز بيرس وجون ديوي، وسادساً: خلفية الواقع الاجتماعي والسياسي الذي عاشه الرجل، حيث ولد بعد الحرب العالمية الثانية في ألمانيا، ونعني ما نقول حين نذكر ألمانيا، ثم عاش الحرب العالمية الثانية وما بعدها مما عانته ألمانيا الشيء الذي عمَّق إيمانه الوطني، وحرصه على أن تكون ألمانيا قلعة للديمقراطية العقلانية التي تتوافر فيها الحرية للجميع من أفرادها حتى وإن لم تتوافر للبلد ذاته اقتصادياً واجتماعياً . هذا الإطار المرجعي والإيبستمي أفرز إرثاً لا يقل عن خمسين مؤلفاً مرجعاً معتمداً أكاديمياً، لعل من بينها «مستقبل الطبيعة البشرية» و«التحولات البنيوية للأوضاع الاجتماعية» و«النظرية والممارسة» و«منطق العلوم الاجتماعية» و«نحو مجتمع عقلاني» و «الخطاب الفلسفي للحداثة».. ولعل الكتاب المهم والذي عد الأكثر اهتماماً باعتباره الإطار النظري لألمانيا الديمقراطية الحديثة «بين الحقائق والمعايير: مساهمات لنظرية جدل القانون والديمقراطية».. وصولاً إلى آخر مؤلفاته سنة 2019 والذي نقل الرجل من مدار الفلسفة وعلم الاجتماع والسياسة إلى مدار التأريخ للفلسفة «تاريخ الفلسفة». ولسائل يسأل لماذا هذا البسط المسهب عن حياة ومرجعيات ومؤلفات الرجل ونحن بصدد الخوض فيما قاله وما لم يقله في حواره مع جريدة لوموند الفرنسية بخصوص آثار جائحة كورونا، والجواب هو أننا نريد أن نجيب بمنطق هابرماس على هذا السؤال وندلل عما صرح وإلى ما لمح، علماً أن الحوار مع هابرماس الذي انتظره الكثيرون وعبر بعضهم بعده أن هابرماس قال كل شيء ولم يقل شيئاً، والبعض الآخر أعاد خطياً ما قاله الرجل، وهناك من اجتر تراكيب حوار الرجل في اقتباسات؛ موظفاً ما قاله في سياقات إيديولوجية تخدم خطه الفكري. وهنا جدير بنا أن نذكر أن الحوار الذي نشرته جريدة لوموند في عدد 23407 والمؤرخ في 11 أفريل 2020 مر بثلاثة تحديات أساسية: أولها أن الحوار لم يتم باللغة الفرنسية بل بالألمانية لسبب معروف أن يورغن هابرماس لا يدلي بأي تصريح إلا بلغته الأم اعتزازاً وانتماء، وبالتالي ما نشروه من ترجمة فريديرك جولي وهو مقدم تلفزيوني وصحفي فرنسي، وهذا ما يجعلنا أمام التحدي الثاني وهو محدودية الخزان المعرفي لفريديريك في مواجهة أفكار هابرماس العميقة، والتحدي الثالث يعود إلى طبيعة الترجمة ذاتها حيث تعد خيانة، ففي هذا الحوار وحول ما تثيره الجائحة من وجهة نظر أخلاقية وسياسية، وهو يجيب بكون العالم وقف على محدودية العلم وتحديداً علم الفيروسات، هؤلاء الذين تعهد إليهم العالم بتقديم المشورة في هذا المجال، ومن ثمة على الحكومات التدخل لترى ما يجب فعله.. هنا هبرماس لا يتكلم بالكلام بقدر ما يوضح بالإشارة، فالرجل يحيلنا هنا على الدرس الإيبستيمولوجي الذي يقر أساساً بمحدودية العلم، وضرورة تقييم ما وصل إليه العالم من نتائج وآليات للوصول إلى تلك النتائج، وهو ضمنياً يعيد الكرة إلى مرمى الساسة الذين عليهم بناء سياسة تطوير العلوم وبناء الشك في الأساسيات واليقينيات، من خلال خطة كونية تغربل العلوم وتعيد بناء مسارها ومن أولوياتها وضع الإنسان بجانبيه البراغماتي والأخلاقي كركائز للمعادلة، وهنا تحضر روح هذا الخطاب خاصة في كتبه «المعرفة والمصالح البشرية» و» الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي» و»التبرير والتطبيق». وفي معرض جوابه عن السؤال الثاني حول التحديات الأخلاقية التي تواجه البشرية خلال هذه الجائحة ينطلق هابرماس من مسألة عقلانية ثابتة، وهي الاستناد إلى الفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور الألماني والتي تقول لكل شخص الحق في الحياة والسلامة الجسدية لينتقد دكتاتورية الجيش الأبيض زمن الجوائح وجريمة الفرز الطبي وما وقع في إيطاليا من تمييز الشباب عن الشيوخ في العلاج السريري بغرف الإنعاش، مسائلاً إياهم ما معيار تفضيل شخص على شخص، وهذا ليس تباهياً بالدستور الألماني وهو أحد منظري ديمقراطيته، ولكن لأنه يعتبر أن أوروبا واحدة ألمانيا هي إيطاليا، وهنا يعيدنا بقوله هذا إلى كتبه « أوروبا القديمة أوروبا الجديدة قلب أوروبا» و» الغرب المنقسم»، كما يرى من وجهة نظر إنسانية أن الفرز جريمة إنسانية، كما لا يرى في رفع الحجر واختياره مسألة ترتقي لدرجة حكمة القرار؛ لما تمثله من خطر على أمن وسلامة الإنسان بما أن المصلحة الاقتصادية غلبت المصلحة الإنسانية فهذا شأن خطير حسب رأيه، وهذا لا يحتاج إلى تدليل. وعن سؤال الخشية من تحول الحالة الطارئة في الحد من الحريات إلى حالة ديمقراطية دائمة، أجاب هابرماس بكون المصلحة الإنسانية ذات علوية، وحالة الحجر الصحي هي حق إنساني أكثر من كونها تسلطاً علوياً وحتى محاولات استغلال بعض الدول للأزمة الصحية لفرض دكتاتوريات سلطوية على شعوبها هي امتداد لتغول سلطوي سابق لا دخل للجائحة فيها، وهنا يستشهد بفيكتور أوربان رئيس وزراء المجر ومعللاً دعم الديمقراطيين المسيحيين الأوروبيين مجرد شهامة وموقف إنساني لدولة تعاني من جائحة مرعبة، وهذا يحيلنا إلى كتابه «بين الحقائق والمعايير : مساهمات لنظرية جدل القانون والديمقراطية «. وعن موقفه من رفض أوروبا صندوق كورونا الذي كان يفترض أن تموله 27 دولة، يجيب بأن طرح هذا المقترح يثير الشك حول وحدة الاتحاد الأوروبي النقدية التي تجد نفسها أمام امتحان هذه الجائحة، فمنطقياً من باب أولى وأحرى مساعدة البلدان المثقلة بالديون والتي تعاني من هشاشة اقتصادية مثل ايطاليا واسبانيا لا فقط من أجل هذه الدول وإنما من أجل اليورو نواة قيام الاتحاد الأوروبي؛ لأن إنقاذ الاتحاد الأوروبي من حرب مضاربة الأسواق المالية ليس مهماً جداً لساستها وقت الجائحة التي كشفت عجزاً كبيراً في معالجة الأزمات، وهو أمر ليس من صالح أوروبا في شيء. ويمضي هابرماس أكثر بأن يعتبر المقترح الفرنسي بإصدار سندات كورونا، وهي عبارة عن قروض مضمونة على المدى الطويل، كفيلة بدمج بلدان الاتحاد الهشة اقتصادياً في سوق المال، ومن ثم الحفاظ على توازن اليورو.. وهنا تظهر جرأة هابرماس لأن هذا المقترح يتعارض مع الرؤية الألمانية المغايرة التي تقدم مقترحاً لم يقنع فيلسوفنا هابرماس الذي دعا وزير المالية الفرنسي إلى رفضه وعدم الرد على نظيره الألماني. وعن سؤال كان قد نُشر في كل من لوموند الفرنسية ودي سيايت الألمانية حول الاتحاد الأوروبي اللاموحد ضد كورونا، يقول هابرماس انه طرح هذا السؤال على ميركل ووزير ماليتها أولف شولتز ولم ير اهتماماً منهما لعناد ومقاربة للأزمة بشكل غير عقلاني، وهي في الحقيقة مقاربة لها سنوات وهي نفسها المتبعة في احتجاجات دول الجنوب، وترسخ في مضمونها المصلحة الفردية لألمانيا ودول الشمال وتمركزها نحو ذاتها، وهي نزعة تمزج القومية والمصلحة التجارية ويسميها القومية التجارية، معتبراً أن خطأ ماكرون هو أنه يخاطب ميركل ولا يعلم تغلغل نزعتها القومية التجارية. وعن سؤال دور الأزمة الصحية العالمية في فسح المجال أمام قوى الشعبوية القومية، يجيب هابرماس الذي كان يقضي وقته خلال الحجر الصحي أمام الكمبيوتر في تدبر العلوم التي تهتم بتاريخ الفكر كما أسلفنا بأن الإجابة عن هذا السؤال تختلف من بلد إلى آخر، ففي ألمانيا الماضي الاشتراكي القومي استطاع أن يحمي البلد من خطر إيديولوجيا أقصى اليمين، ويرى أنه لزمن طويل والسلطات الأوروبية تغمض عينها اليمنى عن الخطر اليميني تحت شعار معاداة الشيوعية المهيمنة وهذا خطر، كما اعتبر أن الفرق بين اليمين الفرنسي واليمين الألماني أن اليمين الفرنسي مؤسسي والألماني عرقي، وهذا يعيدنا هابرماس إلى طرحه الفريد في كتابه « نحو مجتمع عقلاني «، حيث دعا إلى استبدال النزعات العرقية والانطلاق نحو إيديولوجيا العقل ومجتمع الحداثة. وعن سؤال أي روح إيجابية يمكن بثها بعد بروز نزعة متشائمة تجاه الاتحاد الأوروبي، يجيب هابرماس أنه بمحاربة النيوليبرالية وأوروبا صلبة وموحدة في قراراتها ومتضامنة فيما بينها يمكن ذلك، لأن ذلك يتحدد بالفعل لا بالتصريحات، وهو ما يحيلنا على مؤلفه «الغرب المنقسم» الذي يدعو خلاله الغرب إلى التضامن والتخلي على النهج النيوليبيرالي الذي لم يعط الاتحاد الأوروبي سوى تبعية متزايدة لأمريكا. وفي امتداد لسؤال سابق طرح الصحفي سؤال عدوى انتشار الشعبوية القومية في المجال الفكري والفضاء العمومي الأوروبي، رد هابرماس بأن ملخص الأزمة في التفريق بين يمين متطرف يناور سياسياً ويختفي تحت جبة الدولة القومية، ويمين عادي كيان مجتمعي يعبر عن حاجة الفقراء والمهمشين ومطالبتها بحياة كريمة أمام أخطار الهجرة والتصحر الديمغرافي وغيرها من الأسباب، وهنا لابد من أن ننظر إليها بعين الاعتبار ويعتبر أن العجز السياسي الأوروبي وتشتته فتح المجال أمام النزعات الشعبوية القومية، معتبراً الحل للمأزق الديمقراطي في أوروبا الموحدة المنتصرة لديمقراطيتها وعقلانيتها بجرأة وشجاعة. ولعل الأخطر في هذا الحوار هو ما يقبع بين السطور، حيث يطرح سؤال عن اليمين المتطرف وخطره ولم يكن الصحفي بريئاً لأنه يعلم أن والد هابرماس كان من اليمين ومن مناصري هتلر، فكأني به أراد أن يحرج محاوره بحثاً عن إثارة لا نرى موقعاً لها في محاورة قامة علمية من طينة هابرماس الذي كان متناسقاً مع فكره وتاريخه ومؤلفاته، حيث كان كلامه بناء محكم التشييد روحه الدرس الديمقراطي وقوامه الحرية والقيم الأخلاقية والتضامن الإنساني المضامين التي كرس حياته العلمية والعملية لأجلها.
مشاركة :