الناصرية... مهد الحضارة ووهج الحاضر

  • 3/3/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تشهد مدينة الناصرية العراقية التي تغفو على ضفاف الفرات أياماً عصيبة، إذ يطالب أبناؤها بحقوق أساسية عبر مظاهرات سلمية تتخبط الحكومة وقواتها الأمنية بالتعامل معها. الناصرية، المدينة الجنوبية التي تعتبر من أهم مراكز «حركة تشرين» الاحتجاجية منذ عام 2019، قدمت تضحيات كبيرة في سعيها لإبقاء الحركة الاحتجاجية حية رغم الاغتيالات على يد الميليشيات والمواجهة المسلحة والملاحقات من قِبل القوات الأمنية والمخاوف من تفشي وباء (كوفيد - 19). يطالب المتظاهرون السلميون بحقوق بسيطة من حق أي مواطن المطالبة بها: توفير الخدمات الأساسية، ومنع التدخلات الخارجية في البلاد، ووضع حد للفساد المستشري في البلد. في اوج المواجهات الأسبوع الماضي قتل على الأقل 7 من الشباب غير المسلحين وجرح العشرات بإطلاق نار القوات المسلحة. ووجهت انتقادات واسعة للحكومة التي ما زالت تعاني من سوء إدارة التعامل مع المظاهرات وتفشل في تبني سياسات إدارة الحشود بطرق سليمة وسلمية، بلا داعٍ لاستخدام الرصاص الحي في وقت يمكن الاعتماد على سلوكيات أمنية تضمن استقرار المدينة من دون قتل وجرح المتظاهرين الذين لا يحملون السلاح. وقد ذكر عضو مفوضية حقوق الإنسان العراقية علي البياتي أن «الوضع خارج السيطرة في الناصرية، إذ الدماء تسيل والحكومة تتفرج». في الواقع الحكومة لا تتفرج ولكنها تبدو عاجزة مرة أخرى، وهذا العجز غير مبرر عندما تكون القوات المسلحة هي المسؤولة عن مقتل المتظاهرين. رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي سعى إلى تهدئة الأوضاع بإقالة محافظ ذي قار ناظم الوائلي وتنصيب رئيس جهاز الأمن الوطني عبد الغني الأسدي محله. وبينما ارتاح البعض لهذا الاختيار بسبب مواقف الأسدي السابقة ضد الميليشيات، رفض آخرون من الناشطين الأسدي، معتبرين أنه جزء من المنظومة الأمنية التي سبق أن استهدفتهم. رفضُ الناشطين يأتي ضمن سياق اعتمدوه منذ أكثر من عام، حيث يرفضون التنازل وقبول مقترحات الحكومة. من جهة، لدى الناشطين والمتظاهرين الحق في رفض تعديلات سطحية لا تعالج جوهر الأمور؛ فتغيير رئيس مجلس المحافظة من دون محاسبة الفاسدين والقائمين على قتل المتظاهرين لا يحل شيئاً. ولكن في الوقت نفسه، يجب إعطاء فرصة للحكومة عندما تحاول أن تدخل إصلاحات حتى وإن كانت متأخرة. ومع اقتراب موعد الانتخابات في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، على الحركة الاحتجاجية أن تحول طاقتها إلى نهج سياسي يمكّنها من خوض الانتخابات، رغم المآخذ عليها. فالتغيير في العراق اليوم يأتي من خلال صناديق الاقتراع، رغم الفساد والتهميش الذي يعكر العملية الانتخابية. حركة تشرين غير مسلحة، وهذه هي نقطة قوتها أمام الشعب، ولكن في نفس الوقت هذه هي نقطة ضعفها أيضاً في جو يحكمه السلاح وبمواجهة الميليشيات التي تترصد للشخصيات الناشطة الشبابية. المعادلة الصعبة هي أن الناشطين يريدون التغيير، ولكن لا يمكن للتغيير أن يأتي من دون القبول ببعض ما يوجد في النظام الحالي. الانتقال من الناشط إلى الحزبي ليس بالسهل في أي دولة وخاصة في العراق، بسبب عاملي الفساد الإداري والمالي المرتبطين بالعملية السياسية. انعدام الثقة بالسياسيين والأحزاب يعني أن الانتفال من صفة ناشط سياسي إلى سياسي منتظم في حزب معين يعني خسارة نسبة عالية من ثقة الشعب بذلك الشخص، حتى وإن لم تبثت عليه أي تهمة فساد. هذه من أبرز مشاكل الفساد عندما يتفشى في نظام أو إدارة معينة فيتحول إلى ظاهرة تفسد كل شيء. هناك نموذج مهم في العراق اليوم وهو ولادة «حركة امتداد» التي يقودها الصيدلي والناشط العراقي علاء الركابي. والركابي كان من أبرز الناشطين في الناصرية منذ أكتوبر 2019، وكان قد قرر أن يشكل حركة أقرب إلى الحزب السياسي، سماها «حركة امتداد» لخوض الانتخابات. وكان الركابي في الناصرية، يقف بين المتظاهرين والقوات الأمنية. البعض طالبه بالخروج من ساحة المواجهة، معتبراً أنه لا يمثل الحركة الاحتجاجية بسبب رغبته في خوض الانتخابات. البعض الآخر أراده أن يخرج حماية له من رصاص القوات الأمنية. هذا الانقسام انتقل إلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تبنى البعض شعار «علاء الركابي يمثلني»، وتبنى البعض الآخر شعار «علاء الركابي لا يمثلني». بالطبع الجيوش الإلكترونية المعارضة للحركة الاحتجاجية سعت لزيادة الفوضى ودعمت شعار «علاء الركابي لا يمثلني»، سعياً لشق صف المحتجين. المرشحون للانتخابات من الحركة الاحتجاجية يدورون في حلقة مفرغة. فالترشيح هدفه إحداث التغيير من داخل العملية السياسية، ولكنه في الوقت نفسه يفقدهم بعض المصداقية بين الجهات التي تعتمد على تأجيج المشاعر ورفض العمل السياسي. وفي الواقع، نقطة البداية يجب أن تكون في بسط سيادة القانون وحماية الناخب والمرشح وضبط السلاح، سعياً لتوفير الجو الآمن والعادل لخوض الانتخابات. ولكن الواقع في العراق لا يسير بهذا المنحى، إذ على العكس، تتراجع الاوضاع بدل من أن تتقدم أمنياً. فالشخصيات مثل علاء الركابي تجازف بأرواحها وشعبيتها عندما تقرر خوض الانتخابات وتستأهل الدعم من قبل أي طرف يريد التغيير بطرق سلمية وعلى المدى البعيد. تشتد الاضطرابات في الناصرية قبل أيام من زيارة البابا فرانسيس إلى العراق والذي من المتوقع أن يزور الناصرية، حيث توجد مدينة أور الأثرية. تاريخ الناصرية يمس البشرية كلها، إذ ولد فيها النبي إبراهيم عليه السلام. وسيراقب العراقيون تصريحات البابا وحديثه عن معاناتهم من هناك، إذ ستتابع وسائل الإعلام الزيارة التي من المتوقع أن يغطيها أكثر من 400 صحافي من وسائل الإعلام العالمية. وبينما من المتوقع أن يتحدث البابا عن تاريخ الناصرية وماضيها، عليه وعلى العالم أن ينتبه إلى أن حاضر الناصرية ومستقبلها سيسجلهما التاريخ بعناية، حيث المطالبة بحقوق أساسية يتفق عليها الجميع.

مشاركة :