أثار تدمير معبد «بعل شمين» الأثري، والذي تم البدء في تشييده في عام 17 من الميلاد ثم تم توسيعه في عهد الإمبراطور الروماني هادريان في عام 130 من الميلاد، ويرمز إلى إله السماء لدي الفينيقيين القدماء، وهو أحد المواقع الأثرية المدرجة على قائمة «التراث العالمي»، وكذلك تدمير أجزاء من معبد «بل» الأثري الذي يعود إلى العصر الروماني والذي كان مكرساً لآلهة مدينة تدمر، وإن لم يتعرض هيكله الأساسي وأعمدته وحرمه لأضرار جسيمة، في مدينة تدمر الأثرية الشهيرة المسماة بلؤلؤة الصحراء في سورية، على يد ما يعرف باسم «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، وذلك على مدى أيام قليلة، موجة من الغضب العارم على الصعيد العالمي، تمثلت بوجه خاص في إعلان السيدة إيرينا بوكوفا، المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، أن عملية التدمير تعتبر بمثابة «جريمة حرب»، كما أنها اعتبرتها خسارة كبيرة للإنسانية جمعاء، داعية إلى «معاقبة مرتكبي هذه الجريمة». ومن جهة أخرى، أوجدت عملية التدمير تلك حالة واسعة من الشعور بالخجل من جانب الكثير من المسلمين داخل البلدان الإسلامية وخارجها، على اعتبار أن مثل هذه الأفعال تتم نسبتها إلى الإسلام والمسلمين، خصوصاً أن عمليتي التدمير جاءتا على خلفية تدمير تنظيم «داعش» تمثال «أسد أثينا» الشهير عند مدخل متحف مدينة تدمر، والذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي، وهو الأمر الذي تزامن مع تحويل متحف تدمر نفسه إلى محكمة وسجن، ومن قبل ذلك قيام التنظيم بتنفيذ عملية إعدام بحق عالم الآثار السوري الشهير والمدير العام السابق للآثار بمدينة تدمر خالد الأسعد وهو في الثانية والثمانين من العمر، وسبق ذلك أيضاً تدمير ضريحين إسلاميين في المنطقة باعتبارهما من «مظاهر الشرك»، وذلك وفق تنظيم «داعش». وقد دفعت هذه الأعمال الأزهر الشريف إلى اعتبار «أن الدفاع عن تدمر هو معركة الإنسانية بأكملها». كذلك أثارت تلك الأحداث ذاتُها حالة التباس لدى العديد من المثقفين والمفكرين والمحللين حول الأهداف التي يتطلع من قام بهذه الأعمال إلى تحقيقها وماهية المصالح التي يخدمونها من الناحية الفعلية، سواء عن قصد أو من دون وعي. ومن المؤكد أنه يجب ألا يكون هناك خلاف حول حجم الجرم، في حق البشرية جمعاء، الذي تم من خلال تدمير المعبدين وغيرهما من المواقع الأثرية والتاريخية، والتي لا تنتمي إلى دولة أو منطقة بعينها، بل صارت منذ زمن بعيد تشكل جزءاً لا يتجزأ من التراث الإنساني العام الذي يتخطى حدود الدول والمجتمعات والثقافات والأديان والأعراق، وهو ما باتت منظمة اليونسكو تصنفه منذ عقود في إطار الإرث الإنساني المشترك. وبالتالي، فإن تلك الأفعال شكلت ضربة لمنتجات الحضارات الإنسانية القائمة منذ عشرات القرون من الزمان، تاريخياً ومادياً ومن خلال ما تعكسه من كونها جزءاً من التطور الاجتماعي للشعوب التي بنيت بواسطتها وبين ظهرانيها في مرحلة تاريخية سابقة. إلا أننا نحاول هنا أن نلقي الضوء على بعد آخر لهذين الحدثين التدميريين، من خلال وضعهما في سياق أوسع وفي إطار صورة أشمل لنتعرف بشكل أعمق على ماهية الحدث، ودلالاته على الصعيد العالمي الإنساني، خاصة من جهة البنية الفكرية التي تدفع وتؤدي إلى القيام بمثل هذا الفعل وتبرره، بل وتحرض عليه، وتهدف إلى أن تصبغ عليه قدراً من المشروعية، بالإضافة إلى إبراز حدوث مثل هذه الأفعال، أو ما يشابهها، من جانب أتباع عقائد أو أديان مختلفة، عبر مراحل متنوعة زمنياً من التاريخ البشري وفي أماكن متعددة جغرافياً من عالمنا. وعمليات التدمير التي جرت في سورية أخيراً لم تكن الأولى في تاريخ الإنسانية، وللأسف لن تكون الأخيرة، طالما بقيت هياكل بنيوية فكرية لها منطقها الخاص تتبنى التشدد والتطرف الفكري وتنظر له وتروجه بين صفوف البشر، كما أن مثل هذه العمليات لم تكن يوماً، ولن تكون أيضاً في المستقبل، مقصورة على أتباع عقيدة أو ديانة بعينها. فإذا أردنا استحضار الأمثلة من الماضي القريب فهناك العديد منها، فكلنا يتذكر المحاولات المتكررة التي لم تنته من جانب أفراد وجماعات من المتطرفين اليهود لتدمير المسجد الأقصى في القدس الشريف، خصوصاً ما جرى من حريق به في 21 آب (أغسطس) من عام 1969، وذلك في ظل وجود قناعة لديهم زرعها منظرو التشدد والتطرف الفكريين في الديانة اليهودية من أن تدمير المسجد الأقصى هو الوسيلة الوحيدة للعثور على «هيكل النبي سليمان» المقدس لدى اليهود. كما أن العالم بأسره يتذكر ما حدث من هجوم من جانب متطرفين ومتشددين هندوس على مسجد «بابر» التاريخي في مدينة «أيوديا» في الهند في 6 كانون الأول (ديسمبر) 1992 والقيام بتدميره، وهو المسجد الذي تم تشييده في عام 1528 من الميلاد بأمر من الإمبراطور المغولي «بابر»، والذي أخذ المسجد اسمه، وهو أول إمبراطور مغولي في الهند، حيث زعم هؤلاء المتطرفون الهندوس أن موقع المسجد هو المكان نفسه الذي ولد به الإله «رام»، المقدس لدى الهندوس، وكان الغرض المعلن من تدميره هو بناء معبد هندوسي مكانه للإله المذكور، وكان التبرير أن المسجد بني أصلاً على أنقاض معبد هندوسي. كما أن البشرية تستحضر أيضاً ما قامت به حركة «طالبان» المتشددة دينياً خلال حكمها لأفغانستان، وتحديداً في شهر آذار (مارس) من عام 2001، من قيامها باستخدام كميات كبيرة من الديناميت لتدمير تمثالين ضخمين لبوذا منحوتين على منحدرات «وادي باميان» في منطقة هزارستان في وسط أفغانستان وشمال غرب العاصمة كابول، وكانا مثالين على الفن الهندو- إغريقي الكلاسيكي، كما كان يقعان على طريق الحرير التاريخي، كذلك دخلا على قائمة مواقع التراث العالمي الخاصة بمنظمة «اليونسكو». كما ينبغي ألا ننسى ما قامت به نظم شيوعية حكمت دولاً في مناطق مختلفة من العالم، خصوصاً خلال زمن الحرب الباردة، من حظر لممارسة الشعائر الدينية في الكثير من أماكن العبادة وإغلاق بعض هذه الأماكن وتحويل بعضها الآخر إلى مقار للأحزاب الحاكمة أو لإدارات حكومية، ما أثر سلباً على طابعها الأثري. وكان ما تقدم مجــــرد أمثلة تتعلق بحالات مشابهة من اعتداءات على التراث، الذي هو إرث مشترك للإنسانية جمعاء، نتيــجة غلو في الفكر وجنوح في تفسير العقيدة وما أفضيا إليه من تطرف في الفعل وتعصب في الرأي من جانب الأتبــــاع والأنصار. ويجب ألا يؤدي تكرار هذه الأفعال من جانب أتباع عقائـــد مختلفة، إلى وقف النضال ضد هذه التوجهات والنزعات، بل يعني ضرورة تصعيد وتعزيز وزيادة تماسك هذا النضال على المستويات المحلية ودون الإقليمية والإقليمية والعالمية، مهما طال أمد هذا النضال، بهدف توعية البشر جميعاً على تباين مستويات وعيهم، بمخاطر هذه الأفعال، التي لا تؤدي إلا إلى تضاعف العداء والكراهية والبغضاء بين البشر.
مشاركة :