ثمة ولابد تضاد بين بلدين؛ إيسلندا التي تقع على حافة القطب الشمالي، وإثيوبيا الواقعة في القرن الأفريقي، وبين هذهِ وتلك، فوارق شتى؛ على مستوى المناخ، والبيئة، والطبيعة، والحياة، فالأولى تمتاز بمناظرها الطبيعية، وشلالاتها، وجليدها، وقلة تنوعها الإحيائي، فيما تفيضُ الثانية بالتنوع الإحيائي، والقبائل البدائية، وبكونها بلدا إستوائيا، يغلبُ عليه الجفاف والسخونة.. وكلا البلدان نقاط جذب للمصورين الفوتوغرافيين. وكلاهما جذبا المصور الفوتوغرافي البحريني ممدوح الصالح، ليزورهما ويخرج بمحصلة من الصور يحدثنا عنها في هذا الحوار...إيسلندا بلدُ الحلم والجمال التقيتهُ في مكتبه المكركب بمعدات التصوير والمطبوعات التي تتناول هذا الجانب، إلى جوار بعض الصور الفوتوغرافية المطبوعة بأحجام كبيرة، والتي حازت على ميداليات ذهبية في عدد من المسابقات من كل بقاع الأرض.. بعد التحية طلبتُ منهُ أن يحدثني عن رحلته الأخيرة، التي يصفها بـ المغامرة والتي صاحب فيها مصورين من النرويج، وألمانيا، وأمريكا، متجولين في أكثر من خمس مناطق بـ إيسلندا، وجل اهتمامهم منصب على تصوير الطبيعة في هذا البلد الذي يصفهُ الصالح بـ ذو الطبيعة الربانية ليشرع هذا بلدُ الحلم الذي لطالما تمنيتُ زيارته، واستطعتُ أن أحقق ذلك أخيراً. تمتاز إيسلندا ببراكينها، ورمالها البركانية، إضافة إلى وجود أكبر عدد من علماء الأبحاث فيها... يتوقف ليدير حاسبه الشخصي، ويتابع بلدٌ لا تغربُ فيه الشمس إلا ساعات قلائل جداً، وإن غربت، فإن ضوئها لا يغرب أبداً. أنهُ بلد الضوء المستمر، وهو كذلك بلدُ الجبال الجليدية، والشلالات الكثيرة. أخذ ممدوح يقلب الصور التي التقطها خلال رحلته، وهو يسرد قصة كل صورة، والجلد الذي تكبدهُ للتقاطها.. كنتُ أشاهدها مستحضراً وصفاً تقليدياً لجنات عدن، وهو يتابع سرد بعض الحكايا التي تمتاز بها الثقافة الإيسلندية، ليتوقف عن تقليب الصور، ويقول عندما تصور الطبيعة، فأنت تحت إمرتها، ولا يكفي أن تكون كذلك، إذ يجب عليك أن تكون مجهزاً بكل الأدوات والأجهزة اللازمة لهذا النوع من التصوير. أفريقا العشق المختلف! انتقل بي ممدوح عبر صوره إلى بلدٍ بعيد ومختلف تماماً عن إيسلندا، هذه المرة إلى قارة أفريقيا، وبالتحديد إلى جمهورية إثيوبيا، أوقفتهُ عند صورة رجل غامق البشرة، قوي البنية، يلفُ حول عنقه عدداً من الاكسسوارات البدائية، المصنوعة من عظام الحيوانات وقرونها، إلى جانب أساور مختلفة، تلف معصميه، وزنوده، ورداء ملون يلفُ جسدهُ بصورة بسيطة جداً... هذه زيارتك الثانية إلى هذا البلد؟، أجاب بـ نعم وتابع أفريقيا بالنسبة لي عشق مختلف، وإثيوبيا بالتحديد مكان غني للتصوير الفوتوغرافي، لقد زرتها في المرة الأولى، وكانت زيارة استطلاعية، ركزتُ فيها على حياة الناس: مأكلهم، وأساليب معيشتهم، ولباسهم، وحياتهم بشكل عامٍ، إلا أني في زيارتي الثانية، تخصصتُ أكثر في وجوه هؤلاء البشر، وقوتهم الجسمانية، وعواطفهم، وعلاقة البنوة بينهم وبين أبنائهم، وحاولت أن أعكس ذلك في صوري. تابعتُ معهُ الجولة المصورة التي أخذني فيها إلى عوالم هؤلاء البشر، وهو يسردُ لي أساليب معيشتهم، وأوضاعهم الأقتصادية، وطبيعة التعامل معهم، وكيفية يمكنُ لك كإنسان ولد في بيئة متمدنة، أن تتواصل مع أولئك البشر البدائيين في معيشتهم وحياتهم، يتوجب أن تحدثهم من القلب إلى القلب.. كنتُ اتعامل معهم بلغة الإشارة، والإيماءات، وكنتُ صادقاً تماماً في مشاعري التي أبعثها لهم، كما أني روضتُ نفسي للإندماج والإنصهار معهم، عبر معايشتهم، والمبيت معهم لعدة ليالي، كما تبادلتُ شرب القهوة معهم، وكل ذلك جعلني قريبا منهم أكثر من كوني شخصا أجنبيا جاء لتصويرهم والإنصراف. المال ليس المقابل.. بل الإنماء والتعليم لم يكن ممدوح بمفرده، كان برفقة الفوتوغرافي أحمد العوجان، الذي ينظم رحلات تصويرية إلى إثيوبيا، وكان يرافقهم في رحلتهم إلى هذه القبائل، التي حدثني عنها كثيراً، مترجم، للتواصل معهم.. سألتهُ عن ما إذا قام بالبحث والإطلاع على ثقافة هذه الشعوب، وعاداتهم، وسلوكياتهم، فأجاب بالإيجاب، لكني تساءلتُ كيف لشخص أن يترك كل عمله، ويقف أمام كاميرة سائح أجنبي دون مقابل؟ ولماذا؟ فاجأني الصالح بإجابته: الحكومة الإثيوبية ترفض مكافأة السياح لهؤلاء الناس مادياً، وذلك لكي لا تخلق منهم عالات على المجتمع الإثيوبي، فهم بانتظار السواح والمصورين الذين من الممكن أن يأتوهم بشيء ينتفعون به، ولكن ليس المال، فهم ليسوا ماديين، لهذا عليك كسائح، أو مصور، أن تساهم في مشاريع إنمائية، أو تعليمية، أو بحفر بئر ماء، وهكذا توطد العلاقة معهم. يريني صورة لسيدتين تحفران بئر ماء، وتسقيان صغيريهما بمائه الملوث بالوحل، ويعلق رغم أنهم ليسوا فقراء، إلا أنهم يفتقرون لبعض مقومات الحياة الأساسية ثم يروي لي قصة تلك السيدتين، وكيف استطاعتا حفر هذه البئر بأدوات بدائية جداً. سألتهُ ماذا قدمت أنت خلال رحلتك لهؤلاء، لكي تستطيع خلق هذه الألفة بينك وبينهم؟ فأجاب إضافة إلى الجانب الإنساني، والابتسامة، أقوم بحمل عدد من المستلزمات المدرسية؛ كالدفاتر، والأقلام، بالإضافة للسكاكر، وأقوم بتوزيعها على الصغار، بإشراف أحد كبار القبائل... وهذا التوجه يدفع هؤلاء الصغار للتعلم والكتابة والرسم، فأنت لا تذهب لشراء هؤلاء بأموالك، كما يجب أن يتقيد المصور أو السائح بالملاحظات التي تضعها الحكومة الإثيوبية في هذا المقام. مشاريع بروحية القارة السمراء يطمح ممدوح في رحلاته المقبلة إلى تسليط الضوء على الجوانب الروحية والفلسفات التي تتقيد بها تلك القبائل في معيشتها، كما يعمل على إعداد الكثير من المشاريع، إذ من المقرر أن يقيم معرضهُ الشخصي، تحت عنوان أهل الجنة في إيطاليا أوائل نوفمبر المقبل، والذي سيعرض خلالهُ مجموعة من الصور الفوتوغرافيا المتعلقة بأفريقيا. كما سيقام في الأشهر المقبلة معرضان شخصيان لممدوح، أحدهما في جمهورية بلغاريا، والآخر في لندن بالمملكة المتحدة، إضافة لكونه يعتزم العمل على كتاب يتعلق بالقبائل الأفريقية التي صورها خلال رحلاته المتعددة إلى القارة السمراء.
مشاركة :