إسطنبول - أرسلت تركيا إشارات سياسية جديدة إلى مصر والسعودية من خلال ما يعد “ذراعها الثقافية الناعمة” بتأكيد أنها تسير قدما في إنتاج فيلم عن السلطان سليم الأول، السلطان التاسع للدولة العثمانية الذي يعدّ أقسى حكامها وأشدّهم، والذي توسعت رقعة الإمبراطورية في زمنه إلى مصر والحجاز. وقال منتج الفيلم خالد أراباجي في تصريحات نقلتها وكالة الأناضول إن العمل جار لإنتاج الفيلم وإن من المخطّط له أن يتمّ عرض الفيلم عام 2023. وأضاف أراباجي أن “هناك أعمالاً سينمائية وتلفزيونية كثيرة تتناول حياة السلطان محمد الفاتح والسلطان سليمان القانوني في حين لا توجد أعمال كثيرة عن حياة السلطان سليم الأول رغم أنه من السلاطين الذين غيروا مجرى التاريخ بالنسبة إلى الإمبراطورية العثمانية بالرغم من قصر فترة حكمه”. لكن اختيار توقيت إنتاج الفيلم يثير الكثير من التساؤلات بشأن الهدف من السعي إلى استثارة حفيظة دولتين كبريين في المنطقة هما مصر والسعودية اللتان لديهما الكثير من المشكلات العالقة مع تركيا في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان. فالسلطان سليم الأول استولى على بلاد الشام وقام بغزو مصر وتحويلها إلى ولاية عثمانية بعد أن أطاح بحكم المماليك فيها، وخلع الخليفة العباسي المتوكل على الله الذي كان المماليك يحكمون باسمه، وأعلن سليم نفسه “أمير المؤمنين” و”خليفة المسلمين”. واستمر حكم العثمانيين لمصر بشكل مباشر كولاية أو عبر التفويض للخديوي المعين من الباب العالي إلى حين انهيار الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وإنشاء السلطنة المصرية ثم المملكة المصرية. وتؤكد الرواية التاريخية المصرية أن الغزو العثماني هو نقطة فارقة أنهت استقلال مصر وحولتها إلى تابع لإسطنبول وأن الحكم العثماني هو أساس التخلف الذي ساد البلاد على مدى قرون، وهو الأمر الذي لا يزال يحرك الشعور الوطني المصري بشكل كبير. وتجادل حركة الإخوان المسلمين منذ تأسيسها بأن هدفها إعادة الخلافة إلى بلاد الإسلام وأن مصر هي في قلب هذا الهدف. وترى مصر كدولة مدنية أن المشروع الإسلامي الإخواني تهديد لوجودها كدولة مستقلة وأن الضغوط التركية عليها لاستضافة الحركة وتبني مشروعها إنما تندرج في إطار إحياء الإمبراطورية العثمانية، حتى لو كان ذلك بمسميات تراعي استقلال الدول. لكن الإشارة الأخطر كانت موجهة ضد السعودية وفي تذكير الفيلم بمغزى الاستيلاء العثماني على الحجاز ومنح السلطان سليم لنفسه لقب “خادم الحرمين الشريفين”، بالإضافة إلى ألقاب الخلافة وإمارة المؤمنين. وحافظ السلاطين العثمانيون على المسميات طوال عهودهم على الرغم من الرأي الفقهي القائل بعدم صلاحية تولّي غير عربيٍ الخلافةَ والإمارة، بل يشير البعض إلى ضرورة أن يكون المتولي قرشيا. ومنذ عهد الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز يحمل العاهل السعودي لقب “خادم الحرمين الشريفين” في إشارة إلى رعاية السعودية للحرم المكي والحرم النبوي. والإشارات “الثقافية” التي تطلقها تركيا خلال العقدين الماضيين تتمحور حول تحدي تمثيل العالم الإسلامي، باعتبار أن مئات الملايين من المسلمين يرون في السعودية مرجعيتهم الدينية، في حين تحاول تركيا أن تستثمر في كل المعطيات السياسية والاقتصادية والدينية لاستعادة دورها كقائد للعالم الإسلامي السني. وأغرقت تركيا الإنتاج التلفزيوني بمسلسلات من مئات الحلقات تتحدث عن أمجاد السلاطين العثمانيين، وتلقفت بعض الفضائيات العربية النسخ المدبلجة منها وعرضتها، قبل أن تنتبه إلى الأثر الكبير الذي تحدثه عند المشاهد العربي. وتعتبر تركيا أن الإنتاج التلفزيوني ركن أساسي من دبلوماسيتها الناعمة، ولا يتردد أردوغان في زيارة مواقع تصوير المسلسلات التاريخية والإشادة بإحياء الأمجاد العثمانية. وعمل أردوغان منذ وصوله إلى السلطة في تركيا على ترسيخ فكرة قيادة بلاده للمشروع الإسلامي من خلال تحويل ولاءات شريحة واسعة من الإسلاميين إلى حركة الإخوان أولا، واعتبار الحركة أن أردوغان ونظامَه تجسيدٌ لمشروعها الإقليمي. وتكمن المفارقة في أن اللقب استخدم من قبل خلفاء سليم الأول، إلا أن القاسم المشترك بينهم كان الامتناع عن الحج وزيارة المناطق المقدسة، مما يؤكد الطابع السياسي للقب واستخدامه في تسهيل حكم العثمانيين لولاياتهم وسناجقهم بغطاء وحدة الأمة الإسلامية.
مشاركة :