قبل أقل من شهرين فقط كانت الصحافة الإسرائيلية تتحدث عن الرياح الودية بين القاهرة وتل أبيب بعد أن اتخذت القاهرة خطوتين مميزتين في هذا الاتجاه، الأولى عندما بادرت بتعيين سفير مصري جديد في إسرائيل هو السفير حازم خيرت مساعد وزير الخارجية للشؤون القنصلية، بعد ثلاث سنوات أديرت فيها السفارة المصرية بواسطة الوكلاء فقط منذ أن استدعت القاهرة سفيرها من إسرائيل خلال عملية عمود السحاب ضد قطاع غزة. والخطوة الثانية كانت دعوة القاهرة دوري جولد المدير العام الجديد لوزارة الخارجية (خبير وأكاديمي من أصل أمريكي وينتمي إلى المدرسة العلمية الأمريكية) المقرب من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لزيارة جرى الترتيب لها، كان ذلك يوم 28 يونيو/ حزيران 2015، وهناك التقى جولد بوزير الخارجية المصري سامح شكري وكبار المسؤولين المصريين، وعلى عكس التقاليد المصرية بهذا الخصوص كانت القاهرة هي السباقة في الإعلان عن هذه الزيارة. ما فهمه الإسرائيليون من هاتين الخطوتين أن القاهرة تريد استعادة دورها كوسيط سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين وحريصة على إعادة تحريك ملف التسوية السلمية. أثناء تلك الفترة كان التنسيق الأمني بين القاهرة وتل أبيب بخصوص الحرب على الإرهاب في سيناء على أفضل ما يكون، حيث سمحت إسرائيل بدخول قوات مصرية إلى سيناء من خارج إطار قيود معاهدة السلام مع مصر، وكان الطموح الإسرائيلي في العلاقة الاستراتيجية مع القاهرة يفوق كل التصورات انطلاقاً من مسألة ليست لها علاقة بالتعاون أو التنسيق الأمني أو مفاوضات السلام مع الفلسطينيين، ولكن من تطلع أن تكون مصر زبوناً من نوع خاص للغاز الإسرائيلي ومن خلال مثل هذه العلاقة ستعزز إسرائيل من نفوذها الجغرافي الاستراتيجي. كل هذا بددته هذه المرة رياح اكتشاف حقل الغاز المصري الجديد الذي اعتبره كثيرون في إسرائيل (يوماً أسود) في تاريخها حيث آملت أن يسهم اكتشافها لحقل لفيتان للغاز بالبحر المتوسط في تعزيز مكانتها الاستراتيجية في المنطقة عبر التحول من مستورد للطاقة إلى مصدر لها. تجدر الإشارة إلى أن حقل لفيتان الذي كان يعتبر الاكتشاف الأهم في مجال الطاقة في القرن الحادي والعشرين، لا يحتوي إلا على 21 تريليون قدم مكعبة، في حين يحتوي الحقل المصري الواقع في عمق المياه الاقتصادية المصرية على 30 تريليون قدم مكعبة من الغاز. وبحساب بسيط، وحسب رؤية تشارلز آلينس المدير العام السابق لشركة الغاز القبرصية فإن الاكتشاف الجديد يشكل تابوتاً لدفن خيار تصدير الغاز إلى مصر فاكتشاف 30 تريليون قدم مكعبة من الغاز لا يكفي لسد حاجة مصر فقط وإنما أيضاً لتشغيل محطتي التسييل. فكمية ال 30 تريليون قدم مكعبة تعني 840 مليار متر مكعب، ولذلك فإن إنتاج 30 مليار متر مكعب سنوياً يعني أن الحقل سيستمر ما بين 25 30 سنة. وبوسع الاقتصاد المصري استهلاك خمسة مليارات متر مكعب سنوياً، ومحطات تسييل الغاز يمكنها أن تصدر 16 مليار متر مكعب، وهذا يعني أن مصر، مع تشغيل هذا الحقل، لن تكون في حاجة إلى شراء الغاز لا من إسرائيل ولا من قبرص. كارثة إسرائيل باتت مزدوجة بعد إنهاء الحظر المفروض على استيراد النفط والغاز الإيراني كأحد نتائج الاتفاق النووي الذي جرى توقيعه مع إيران، فلأول مرة يجري الإفصاح عن أحد أسباب أو دوافع بنيامين نتنياهو لرفض هذا الاتفاق وإصراره ليس على البحث عن اتفاق بديل أفضل. ولكن كان خياره دائماً هو لا.. اتفاق أي استمرار حالة حظر تصدير النفط والغاز الإيراني على أمل احتكار إسرائيل السوق التركية لاستيراد الغاز الإسرائيلي. الآن ستبدأ إيران في تصدير الغاز إلى تركيا وإلى كل العالم، وفي ظل تراجع أسعار النفط لم يعد أمام إسرائيل فرص مواتية لتسويق الغاز الإسرائيلي بالأسعار التي تريدها حكومة نتنياهو أي ستة دولارات للوحدة الحرارية. كان رهان إسرائيل هو أسواق مصر والأردن وتركيا بالأساس، وربط هذه الأسواق باتفاقيات طويلة المدى لشراء الغاز الإسرائيلي يمكن استثمارها في علاقات ونفوذ استراتيجي إسرائيلي مع هذه الدول. الآن دخل الغاز الإيراني منافساً في السوق التركية وانخفضت الأسعار، وأغلقت السوق المصرية، وربما معها السوق الأردنية التي ستفضل حتماً شراء الغاز المصري لوجود خطوط أنابيب نقل الغاز من مصر للأردن عكس الحال مع إسرائيل. الخسارة ليست فقط في انسداد أسواق البيع أمام الغاز الإسرائيلي وخسارة فرص تمدد النفوذ الإسرائيلي في مصر والأردن وتركيا، بل إن تطوير حقل غاز لفيتان سيواجه بتحديات كبيرة. فقد اعتبر عوديد عيران رئيس مركز دراسات الأمن القومي السابق في الكيان أن اكتشاف حقل الغاز المصري الجديد يشكل ضربة قوية، وربما قاصمة لمشروع تطوير حقل لفيتان. فمصر لن تشتري الغاز من إسرائيل وهشاشة العلاقة مع تركيا خاصة في ظل المنافس الإيراني أفقد إسرائيل ليس فقط الدافع السياسي الاستراتيجي لبيع الغاز بل أيضاً سيعرقل صفقة الغاز مع شركتي نوبل انيرجي وديلك الشريكتين في حقل لفيتان خصوصاً بعد التراجع الفوري الذي جرى في أسعار أسهم شركات الطاقة في إسرائيل ما بين 11% لشركة ديلك و21% لشركة رتسيو وهما شريكتان في حقل لفيتان، كما تراجعت أسعار أسهم شركات النفط بحوالي 6% في يوم واحد عقب الإعلان عن اكتشاف حقل الغاز المصري، ولعل هذا ما دفع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لعدم عرض صيغة صفقة الغاز أمام الكنيست في ذلك اليوم انتظاراً لمراجعة الصفقة كلها. لذلك لم يكن مستغرباً أن يعتبر الإسرائيليون إعلان اكتشاف حقل الغاز المصري بمثابة حرب يوم غفران اقتصادية، ولم يكن مستغرباً أيضاً أن يفقد الإسرائيليون أعصابهم في العلاقة مع مصر والتوجه لفتح ملف خلافي جديد يتعلق بالموقف المصري العدائي من القدرات النووية العسكرية الإسرائيلية والمشروع المصري المقرر تقديمه خلال أيام إلى مؤتمر الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا بخصوص الدعوة المصرية لفرض رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية على المنشآت النووية الإسرائيلية وتحريك ملف الدعوة إلى المؤتمر الدولي الذي قررته الوكالة الدولية للطاقة الذرية في مؤتمر مراجعة معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لجعل الشرق الأوسط إقليماً خالياً من الأسلحة النووية خاصة ومجمل أسلحة الدمار الشامل الأخرى عامة. فقد كشفت صحيفة هآرتس النقاب عن أن إسرائيل طلبت من مصر الكف عن محاولاتها تمرير مشروع لفرض الرقابة على المنشآت النووية الإسرائيلية في المؤتمر العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي سيعقد خلال الأيام القادمة. وأوضحت أن تل أبيب أوصلت رسالة إلى مصر قام بها للقاهرة المبعوث الخاص لرئيس الحكومة اسحق مولخو ومستشار الأمن القومي يوسي كوهين. الطلب الإسرائيلي اقترن بعتاب شديد وتحذير. العتاب كان من أن القاهرة لم ترد جميل التعاون الأمني الإسرائيلي مع مصر في مكافحة التنظيمات الإرهابية بما في ذلك موافقتها على إدخال قوات كبيرة من الجيش المصري إلى شبه جزيرة سيناء بشكل يتجاوز العدد المسموح به حسب اتفاق السلام مع مصر. أما التحذير فكان أن إسرائيل وأصدقاءها لن يسمحوا أبداً بتمرير المشروع المصري وسوف يحبطونه داخل مؤتمر الوكالة الدولية للطاقة الذرية على نحو ما جرى إحباط هذا المسعى المصري أثناء مؤتمر مراجعة معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية الأخير الذي عقد في نيويورك بمقر الوكالة الدولية للطاقة الذرية (إبريل/ نيسان مايو/ أيار 2015)، حيث تضامنت الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا في رفض تضمين المطالب المصرية في البيان الختامي للاجتماع لدرجة أن الاجتماع انتهى دون صدور بيان ختامي. كيف سترد القاهرة على هذا التسخين الانفعالي الإسرائيلي؟ الأرجح أن مصر لن تتراجع عن موقفها، لكن المسؤولية ستكون ممتدة عربياً في مؤتمر الوكالة الدولية للطاقة الذرية حيث لم تقف المجموعة العربية مع مصر مؤيدة لجهودها داخل مؤتمر مراجعة معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. ومن ثم فإن ما سوف يحدث في هذا المؤتمر سيكون اختباراً للجميع ليس فقط في مجال مصداقية الموقف العربي الرافض لانتشار الأسلحة النووية في الشرق الأوسط، ولكن أيضاً في مجال التنسيق العربي الجماعي في وقت يجري الحديث فيه عن أمن جماعي عربي مشترك للرد على المساعي الإيرانية لفرض نظام إقليمي جديد تهيمن عليه طهران.
مشاركة :