حين أكلت الجراد في القصيم

  • 3/6/2021
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

بقلم : عبدالعزيز قاسمإعلامي وكاتب صحافي   [email protected]  تراصت بشكلٍ مرتّبٍ على صحون دائرية صغيرة، أصابعُ سمراء أشبه بقطعِ بطاطا الوجبات السريعة، وبادرني الدكتور الخلوق إبراهيم الربيعة بواحدةٍ منها، وهو يقول: “لا تفوّت فرصة أن تتذوق هذه الأكلة الجديدة عليك، والتي لن تجدها بهذا الشكل والطعم إلا عندنا هنا بالقصيم”. ورجلٌ محبٌّ للسفر مثلي، يثير فضوله كل شيء غريب، ويحب أن يجترح مثل التجربة.  مرّت بذاكرتي الكليلة كل الأكلات التي أعرف، إلا ما قاله الصديق الحبيب الدكتور الربيعة، وهو يصرُّ -بحماسة كبيرة- أن أتناول منها، ليعرّفني بها بكل تدلّه: “هذا هو الجراد.. ولن أتركك حتى تتذوقه يا أبا أسامة”. وبالطبع اشمأزت نفسي مباشرة، اتكاء للتصوّر المسبق عنه، وما كنت أبكّتُ به على أصدقائي من القصيم المحبين لأكله.  ولمكانة الصديق الدكتور ؛ تجالدتُ ولم أحبُّ ردّ طلبه، وسمّيتُ الله وأنا أزدردُ ريقي، ووضعت الجرادة المقرمشة داخل فمي، وأنا أقول لهم: “إنْ حصل لي تسمّم، أو متُّ عندكم؛ فدمي في رقبتكم يا أهل القصيم”، كنوعٍ من المهاذرات التي لا تخلو بين زملاء كشتة البرّ، وهي التي تعطي الرحلة رونقها وجمالها وذكرياتها.  من عَجبٍ، أنّ كل أوهامي تبخّرت، وأنا ألوك الجرادة في فمي، إذ كانت أقرب للجمبري المقرمش، وقد مُلئت بالبهارات، واستطعمتها مباشرة، ومرّ بالتجربة معي السفير عبدالرحمن خياط، أمام ضحكات مضيفنا الكريم الشيخ عبدالرحمن الحناكي وصحبه، وإذا بنا نطلب أخرى وثالثة وعاشرة من لذتها، واستمزاجنا لها.  قدّمتُ في سنابآتي اعتذارًا للأصدقاء من القصيم، أنني لطالما طقطقت على أكلكم له، ولكن لا تلامون بصراحة، إذ طعمها المقرمش مقبول. الطريف أنّ والدتي شاهدت كل المقاطع، لترسل لي رسالة غضبى، وهي متعجّبة مستنكرة من تتلذذي بأكل الجراد، وقد نفرتْ مما رأته، ووبختني وقالت: “إياك أن تزورني..لا أود أن أراك لمدة شهر”، وأبلغت رفقتي برسالتها، وضحكوا عليّ شماتة أخوية.  صفقتُ كفًا بكفٍّ، مردّدًا: “حسبي الله عليك يا دكتور الربيعة، نكبتني مع والدتي الأغلى عندي!”. وطبعًا فاتني ذكر أن القوم هناك سوّقوا علينا أنّ للجراد فوائد صحية، وترفع من فحولة الرجال، وجملة من المغريات التي وقعنا في براثنها، وردّدوا المثل الشهير: “إذا طلع الفقع صرّ الدواء.. وإذا طلع الجراد فانثر الدواء”، وصدّقنا نحن. لم أنل فقط توبيخ والدتي الأغلى، فقد فقدت أيضًا مجموعة كبيرة من المتابعات لي.  قصة أكلي الجراد كانت قبل يومين فقط، حيث لبّيت دعوةً كريمةً من رجل الأعمال الحبيب خالد السعود، وقد اعتذرتُ له لثلاث مرات على مدى السنوات الماضية أن آتيه في مخيمه السنوي، والرجل على درجة من الخلق والتواضع والشهامة؛ ما يجعلك تخجل أن تردَّ مثله، وفعلا رتّبت مع بعض الأصدقاء للذهاب له.  العادة أن يلبّي للرجل في مخيمه الكبير الذي عقده هذا العام في برّ القصيم، ما يقارب الستين أو السبعين من صفوة محبيه وأصدقائه، لكن هذا العام بسبب الاحترازات، قام بجدولة مجيئنا، وتقسيم الضيوف بحيث لا نتجاوز العشرين، وكم كنت سعيدًا بوجود جهاز كشف الحرارة التي مرّ بها علينا أحد مساعديه وكشف بها حرارتنا.  طبعًا المعقّمات كانت في الغرف والسرادق الكبير، ومنعته مروءته أن يطلب منا تطبيق “توكلنا”، فبادرته بألا يخجل، بل ذلك من مصلحة الجميع، ويجب أن نعممها كثقافة في كل تجمعاتنا. بصراحة هالني ما رأيت من خدمات فندقية ومهاجع نوم ودورات مياه واستحمام ومكيفات وسخانات في وسط الصحراء هناك.  علّق بعضُ المتابعين لسنآباتي أنّ هذه الرحلة ليست “كشتة برّ”، بل كل ما فعله المضيف أنه نقل فندقًا للصحراء. وكم امتننا لمضيفنا كلَّ ما قدّم لنا، ونحن نرى ضيافته وابتسامته وحرصه على إسعاد ضيوفه والتباسط معهم. ويحدثنا أبو فهد ولكأننا مَنَنا عليه بمجيئنا، ولا يدري أية سعادة وأخوّة وحبٍّ أغدقها علينا بكرمه وفضله!!   في جلسة السهرة بأول يوم؛ أبدى كلَّ واحدٍ منا بعض موهبته، فهناك من ألقى الموال، وجماعة قاموا بالرقص الشعبي، وعندما استوى المجلس وهدأ، أخذتُ مكبّر الصوت، وعلى ضوء الشموع التي تتراقص هناك أمام كل منضدة، والضوء الخافت الذي يلفّ الخيمة الكبيرة؛ بدأت في إلقاء بعض مقاطع قصيدة “الأطلال” الشهيرة لإبراهيم ناجي، تلك التي أعشقها وأحفظ أجزاء عديدة منها.  ظننت بأن القوم سيميلون طربًا واستمتاعًا لأشهر قصائد الرومانسية في الشعر الحديث، وإذا بمضيفنا خالد السعود يبادرني: “الله يجزاك بالخير يا أبو أسامة، لا عاد تجيب لنا قصائد.. وين الشيلات يا جماعة الخير”، فهبّ من في المجلس يوافقونه، وصفقت كفاً بكفٍّ أندب حظ الشعر الفصيح، وأبحث عن الصديقين المفتونين بالشعر: حسين بحري وسليمان النملة!!  يأتي المخيم بعض الأضياف، ويذهب عنه آخرون، وكم فرحت بمجيء الشيخ خليل بن محيلان العنزي من عرعر، وكانت فرصة الحديث معه عما رأيته قبل ثلاثة أسابيع في بلدة الأجفر، ونحن عند درب زبيدة للحج، مع رفقة كريمة في كشتة الربدي الأحبة الفضلاء، وصديقي الأثير يوسف القاسم، وكيف أن كهلًا بدويًا من شمر ألحّ علينا بالغذاء، واعتذرنا له بلطف وأدب، خشية الاثقال عليه.  انتفض الشيخ خليل العنزي وقال: “ليتكم وافقتموه، فمثل هؤلاء في البرّ والصحراء يظلون بدون ضيوف لفترة طويلة، ولكنتم أدخلتم السعادة على نفسه.. نحن أهل الشمال نفرح كثيرًا بالضيف، وأبناء عمومتنا من شمر أهل كرم وضيافة، ولو قدّر لكم أن دعاكم أحد من الشمال؛ لبّوا له رجاءً، وأنتم من تمنّون عليه بالقبول، للسعادة التي سيكون عليها”.  طبعا، بثثتُ حديثه في السناب شات، كي يفيد من تلكم التوجيهات من سيتعرّض لموقفنا يومًا ما، وجاءتني ردودٌ من شمامرة أحبّة ومتابعين، وهم يهلّلون للشيخ خليل العنزي ويشكرونه على ما قاله في حقهم، وكتبوا لي: “يا أبا أسامة.. العُنوز كنوز”، يردّون له تحيته، وسرّ بردّهم، وألحّ عليّ أن أزورهم في عرعر، ووعدته إن سنحت لي الفرصة.  التقيتُ في المخيم زميلنا الكبير الدكتور سعود المصيبيح الذي له منزلة في نفسي، وأيضًا لقيت الشاعر والراوي إبراهيم بن طلحة الذي أطربنا ببعض حكاياته وقبلاته لمن يلتقي، وأعجبني ما كان يردده: قالوا: وش أنت؟ قلت: أنا مثل غيريقدّام يلحقني ملامٍ أو زريّة إنْ قلتْ حرٍّ أو عبدٍ وإلّا خضيريمِنْ طينةٍ، منها جميع البريّة  الحقيقة أن كشتات البرّ هاته؛ تطرحُ ما يعتري النفس من لأواء وهموم، وتُزيلُ الكدر، ويعودُ من يأتِها لأهله وقد نشطتْ نفسه من جديد، وكنت أذهبُ لمامًا لها مع رفقة من العائلة الكريمة العريفي، الذي لي فيهم صديقُ عمرٍ، هو أحد أنبل وأكرم وأشهم من عرفت بحياتي، وأشعر أنني بدأت أدمنُ الذهاب للصحراء والبرّ.   عندما تفترشُ قمة تلة الرمل بالبرّ، وقد صَعَدتها حافي القدمين، لترسل نظرك للأفق، تراقب الشمس وقت الغروب، فأية لحظة ماتعة تعيشها! وسبحان الله أن تأثير الغروب على النفس يختلف عندما ترى قرص الشمس بلونها البرتقالي وهي تغطس في البحر أو تتوارى خلف قمم الجبال، كل واحدة لها روعتها وتأثيرها على النفس.  كانت لي مساجلات مع الصديق الرائع عبدالعزيز التويجري رجل الأعمال الخلوق، وقد عاتبته بزهدِ أهل بريدة عن إظهار أوقافهم ومشروعاتهم الخيرية، فردّ عليّ أنهم ينشدون الإخلاص، فحاججته بخطأ ذلك، وأنا أتحدث عن المشروعات العامة لا الخاصة، فثمة من يقتدي بهم، وثمة من يساهم ويشتري، ووعدته بزيارة خاصة لأكتب عن تلكم المشروعات.  أبهرنا التويجري وهو يسردُ بعض ابتكاراتِ أهل القصيم، وكنتُ أظن أنَّ ثمة مبالغة في كلامه عن تلكم المشروعات، بيد أنه صدمنا بقوله أنّ عشاءنا الذين أكلناه من السمك في تلك الليلة، من مزارع السمك في القصيم. وأن شركات “الوطنية” للدجاج، و”هضيم” وغيرهما من عشرات المشروعات، هي وقف لله تعالى، أوقفها تجارهم من صلاحهم.  كانت انطباعات عجلى من وحي تلبية دعوة الرجل الخلوق خالد السعود لمخيمه، وقد أعرضتُ عن ذكر أسماء فضلاء أحبة ونشر صورهم، إذ لا أنشر أو أكتب إلا بعد استئذان، لأن هذا من أدب الرفقة والمؤاخاة. غدًا إلى المدينة المنورة، وقد صالحتُ والدتي -عن أكل الجراد- بأخذها هناك، ومن نعمة الله عليّ أن رزقني أمًا وزوجة صالحتين، إن أغضبتهما؛ كانت رضوتهما بالسفر بهما إلى مكة أو المدينة.

مشاركة :