أول الكلامالامومة كما الاوطان, تظل ترفرف فى قلوبنا, مهما نأينا او بعدنا عنها د.عبد الستار الراوي تتشابه الأمهات في كثير من المآثر والسجايا، ولا يختلفن إلا في بعض التفاصيل الصغيرة، وإذا ذهبت إلى مشرق العالم أو مغربه، لن تجد فرقاً كبيراً بين أم وأخرى إلا بالتعبير عن ذاتها، وفي أساليبها أحيانا، إزاء هذه الحقيقة الوجودية،مليكة حمادي، شأنها شأن الأمهات الأخريات، لم تنفرد بشيء مغاير، إلا في الـ(معنى)، الذي فُطرت عليه أو التقطته من بستان أبيها في مرحلة الطفولة والصبا، فـ(الأمومة)، تتسع لديها وتنصرف من الأسرة الصغيرة إلى العائلة الكونية، من الخاص إلى العام، ومن البقعة محدودة المسافة إلى الوجود كله، فالأمومة قادرة على ضم الكائنات كافة، قد تبكي لنوْح طير، أو لمواء قطة ضلت طريقها، كانت تؤمن، بيقين مؤكد أن الكائنات، باختلاف فصائلها وأنواعها، ذات مصدر واحد، تنتمي إلى عائلة الكون الواحد: فالشجر، والإنسان، والحيوان، وحتى النمل، من أصل واحد، وكان من وصايا مليكة حمادي لبنيها أن يحسنوا العناية بالأشجار والرفق بالحيوان، وأن يتئدوا في أثناء السير، خشية أن تضل أقدامهم فتدوس (نملة) تحمل زاداً لبنيها. وتروي الأم مليكة قصصاً بالغة الدلالة عن وحدة المخلوقات الكونية، فاللشجر روح، وللدابة روح، كما الإنسان تماماً، وكانت تثق أن هذه الموجودات لها مشاعر، كما للبشر تماماً، وأن بين يديها براهين على ذلك، فقد تابعت في بستان أبيها حمادي الصالح دورة حياة الحيوان والحشرات والشجر، وأن أول الْبيّنات في اعتقادها تكمن في حياة (النمل) و(الزيتون). وتثق أن الجنة مأوى الأسخياء والطيبين والبسطاء، وأن الأيتام والأطفال والشهداء هم أول الضيوف على مائدة السماء، وأن من الخطأ أن نعتقد أن قيمة الإنسان تكمن في وفرة المال أو وجاهة مقام، بل أن جماليات الغنى كلها تتجلى في وداعة القلب، فمن هذه الفضيلة تنبع المكرمات، السماحة، الشهامة، المحبة، وأن النفس المطمئنة هي النفس الراضية وهي مصدر السعادة، ولن يظفر الإنسان بها ما لم يكن ذا مروءة صادقة وروحاً أبية، ومحبة صافية، يغدقها على كل من حوله، تعبيراً عن نصاعة القلب، الذي ينعم صاحبه براحة الضمير. لا أعتقد أن أمي وطوال حياتها قد نعمت بنوم هاديء، منذ أن كنا أطفالاً وحتى رحيلها الأبدي من غير أن تطمئن على بناتها وبنيها، فكانت غالباً ما تهبّ من غفوتها، تتفقد هذا وتضع يديها على جبين ذاك، تغطي (ألمازة)، وتزيد من دثار(وداد) وتصغي إلى أنفاس (سعد). وإذا تأخر أيّ من بنّيها عن موعده، فأنها تلازم عتبة الدار إلى جوار أبي، ترقب الطريق هلعة، تأكل قلبها المخاوف والأفكار، ولم تقلع أمي ولا أبي عن هذه العادة أو يخففان من وطأتها حتى فارقا الحياة، وعندما كنا نقول نطلب من أمي ونتوسل إليها ان تكّف عن قلقها لأننا كبرنا ولم نعد صغاراً ، كانت تجيبنا: “إن الأولاد مهما كبروا وصاروا رجالاً وتزوجوا وأعقبوا، فإنهم في رأي الأم لم يكبروا، فالولد في نظر أمه خارج حسابات الزمن، مهما بلغ من العمر، لأنه يبقى متصلاً بالحبل السري، ممدوداً إلى رَحِمِ الأم”. وتبسط أخلاقيات الأمومة جناحها لتضم الجار والصديق وابن السبيل... تتحدث أُمي عن سنوات الكرخ السعيدة فتذكر: “إن زنْگوّْ، شأن غيرها من أزقة بغداد العريقة، وضعتْ يدها على السرّ العظيم ـ المحبة – صانعة الخيرات والفضائل الإنسانية، فأشرقت في النفوس أخلاقيات: (الشهامة، الشيمة، النخوة، السماحة، البساطة، البراءة، السخاء) عبر ثلاثية الفردوس المقيم: (الإيثار، التراحم، المحبة البيضاء). فالدور الإحدى عشرة تصير داراً واحدة في لحظة الضرورة السببية، تتواصل في السراء والضرّاء، فتلتقي العقول والقلوب معا، فكان وجع الكائن الواحد كلياً، وما يصيب داراً يحلّ بالدربونة كلها من أول بيت إلى آخر دار . وطبقاً لقانون الفطرة الأولى ، فأن التآزر المتبادل هو ذاته في أحوال الفرح ، كما في الارزاء . لأن الفردية بلّوْنها النرجسي موضع ريبة على الدوام ، قد تكون صالحة مرة ولكنها ذميمة في غالب المرات . أما الإرادة العامة فهي صالحة في كل الأزمان، وهو ما درجت على توكيده وقائع الحياة ، فتفاعل الفرد مع المشيئة العامة هو المبدأ العملي الأعلى، الذى جعل بيوتنا الصغيرة تنضم إلى بعضها، وتتكاتف في كل ما يتفق مع المصلحة الكلية. فالفرد، الذي يعي كينونته في محيط الكل لابد أن يدرك أيضاً أن حقوقه الطبيعية الوحيدة هي تلك، التي يتمتع بها الناس كافة، وهذا هو القانون الذى يفضي إلى الإشباع النفسي حين يحقق الإنسان وجوده ويكتشف ماهيته، فيدرك أن وجوده داخل الحياة ليس محض لعبة عابثة أو ورقة نصيب قدرية، بل هو من يصنع دوره ليشارك الآخرين في تشييد عالم أفضل، يزدهر في ظله الإنسان، وترتقي فيه الحياة، بالعقل المبدع وبالإرادة الحرة، والالتزام بقانون الـ(النحن)، لكون العدالة إحدى فضائل الطبيعة، تثق الامهات أن الإيمان يفضي إلى الإنشراح، الذي يقترن عندهن بـ(الستر والعافية) والرضا، إيمانا بالحكمة المتواترة: (إن لكل غد شمس وطعام)، مقولة الفيلسوف مدني صالح، تتردد دوما على ألسنة الأمهات، فالحياة تزدهر ويزداد نعيمها بـ(التكافل) الاجتماعي على رغم نقص الزاد والثمرات، وعلى رغم الفقر والكفاف وشظف العيش، فإن التواصل التلقائي في زنْگوّْ يجعل كائناتها، كما الخلية الواحدة، ما من كائن يجوع فيها، أو ينام على الطوى أو يعرى، فشجرة الأمهات الرحيمة لم تنسّ أياً من أبنائها. بهذه المروءة الإنسانية، كانت أيام الدربونة البغدادية تلقي بأنوارها على اربعينيات القرن العشرين وخمسينياته، وبهذه القيم الندية صنعت الأمهات (المعنى) الوضيء للحياة والوجود، فلا حياة من دون محبة ولا وجود من غير إيثار.. تلك كانت وصايا الامهات. (3) الأمهات في زنكو، يمثلن أُمّاً واحدة، والواحدة منهن مسؤولة عن جميع الابناء، قوامة على بنين الدربونة وبناتها كافة، هكذا بسطت الامومةُ الحانية ظلها الوارف على حياتنا، كان جيلنا محظوظا، وهو يرى نفسه محاطا بتلك القلوب الندية كلها، تحدب عليه وتأخذ بيديه، وتمكث الى جواره إذا أصابه مرض أو ناله أذى، ويصبن بقلق الوجود إذا ما تأخر أحد من الصبيان في الإياب، فلا يكف لسانهن عن الدعاء والرجاء لأجل أن يعود الغائب سالماً معافىً. وقد حدثتني أمي مليكة كيف تناوبت الأمهات على العناية بأطفال الدربونة، أيام تفشي الجدري والتراخوما، والسعال الديكي،فما من طفل مرض، إلا وكنّ إلى جواره، وأخبرتني أن أياً منهن لم تتأخر في إسعاف صبري يوم جرح في أثناء الاشتباكات بين الفحامة والمنصورية، وأنهن هرعن إليها في أثناء نقلي إلى مستشفى حماية الأطفال بباب المعظم، ولازمنها طوال مدة مرضي، وكنّ يقطعن المسافات الطويلة بين الكرخ والرصافة جيئة وذهاباً، مشياً على الأقدام . وقد أدرك أولاد زنْگوّْ وأطفالها وفتيانها هذه الحقائق، فكانوا بررة بالأمهات، وعدّوا طاعتهن من الفروض الواجبة، والامتثال التام لوصاياهنّ من حسن اللياقة ودواعي التهذيب، وتوقيرهن برّ وإحسان . وكانت كل أم من أمهاتنا تعتقد، بيقين راسخ، أن لها في كل صبيّ من صبيان الدربونة حقاً ونصيباً، فهو ابنها، وإن لم تلّده أو تحمل به .. لم يغب وجه أيّ أم منهن، على رغم انقضاء الأيام وتراكم السنين، فلكل واحدة منهن مقاماً مدخراً في الذاكرة والقلب، وليس بوسع الأبناء بعد أن عبرت الأمهات ضفة الحياة الدنيا إلى منازل السلام الأبدي، إلا أن يقرأوا السلام الجميل إلى ذكراهن
مشاركة :