بعد ما يقرب من شهرين من توليه المنصب وتثبيت نفسه ودائرته الداخلية في البيت الأبيض، لا يزال جو بايدن في طور تعيين أفراد في مناصب حكومية قيادية. ويعمل أكثر من عشرة ملايين أمريكي في الحكومة الفيدرالية، ومع زيادة هذا العدد خلال كل من إدارتي أوباما وترامب، مازالت التعيينات لمناصب رئيسية في تسلسل قيادة السياسة الخارجية لدولة ذات قوة عظمى في العالم مستمرة حتى الآن. وبعد فترة وجيزة من تولي بايدن السلطات الرئاسية تم اختيار معظم المناصب العامة للسياسة الخارجية والأمن، بوجود شخصيات مثل وزير الخارجية «أنتوني بلينكن»، ووزير الدفاع «لويد أوستن». ومع ذلك، فقد استغرقت المناصب ذات المستوى الأقل في البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية وقتًا أطول لتعيينها، حيث تُركت المناصب الرئيسية شاغرة على الرغم من تورط الولايات المتحدة بالفعل في أزمات الشرق الأوسط وخاصة مع إيران. ويعد تعيين هذه الوظائف في أسرع وقت ممكن هدفا رئيسيا للحكومة الجديدة، حيث سيقدم هؤلاء الأفراد المشورة للرئيس، ومستشار الأمن القومي، ووزير الخارجية، بشأن المسائل المهمة المتعلقة بالاستراتيجية والسياسة. ومع ذلك، يعتبر اختيار الأشخاص المناسبين للوظيفة أكثر أهمية من الوقت المستغرق لتعيينهم، وفي هذا الصدد، قررت إدارة بايدن اختيار المسؤولين الذين عملوا معهم من قبل خلال رئاسة أوباما، أو الذين استقروا حاليًا في مناصبهم بعد أن شغلوا مناصب عليا في الإدارة السابقة. وتلخيصًا لقائمة التعيينات الجديدة المعروفة بالفعل التي تم إجراؤها أو التي لم يتم تأكيدها بالكامل أوضح «جاك ديتش» و«روبي جرامر»، في مجلة «فورين بوليسي»، أن هذه القرارات قد اتُخذت من أجل «التعامل مع تقلبات متجددة في الشرق الأوسط، ولإدارة سياسة الولايات المتحدة بشأن أصعب الأزمات حول العالم». ويأتي التعيين الأبرز في الآونة الأخيرة داخل مجلس الأمن القومي -الذي يقدم المشورة للرئيس بشأن مسائل الأمن والسياسة الخارجية، وله إشراف كبير على الشرق الأوسط- حيث أضيفت عضوية كل من سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ومدير مكتب سياسة العلوم والتكنولوجيا، ومدير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. ويأتي على رأس تسلسل قيادة مناصب السياسة الخارجية منسق البيت الأبيض الجديد للشرق الأوسط وشمال إفريقيا «بريت ماكغورك»، الذي وصفه «ديتش» و«جرامر» بأنه «مسؤول حكومي ذو خبرة كبيرة»، حيث كان جزءًا من إدارات بوش، وأوباما، وترامب، وعينه بايدن في يناير 2021 ليصبح مسؤولا عما يتعلق بالشرق الأوسط، حيث شغل منصب المبعوث الرئاسي الخاص للولايات المتحدة للتحالف الدولي لمواجهة داعش لكل من الرئيسين أوباما وترامب، لكنه ترك المنصب عام 2018، احتجاجًا على قرار ترامب الانسحاب المفاجئ للقوات الأمريكية من شمال سوريا. وتعد الشخصيات التي ستكون تحت قيادة «ماكغورك» في مجلس الأمن القومي و«بلينكن» في وزارة الخارجية هي من سترأس فرق السياسة التي تتعامل مع البلدان والمناطق المهمة بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وهم موظفون ذوو خبرة في السياسة الخارجية، ونادرًا ما يظهرون في المقالات الإخبارية، وليس لديهم وجود مُهم على الإنترنت. ومع ذلك، فهم يمثلون عيون وآذان واشنطن بشأن التطورات في دول الشرق الأوسط وتداعياتها الأمنية. ومن ضمن التعيينات التي تم تحديدها بالفعل لتصبح مديرة لشؤون مكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي المسؤولة المخضرمة في مكافحة الإرهاب والاستخبارات «آني روهرهوف»، التي عينت في فبراير 2021 رئيسة قسم مكافحة داعش في المركز الوطني لمكافحة الإرهاب، ما يؤكد مجددًا نهج إدارة بايدن في الحفاظ على موقف حازم تجاه الاستخبارات ومكافحة الإرهاب لحماية أمريكا وحلفائها. ومن بين التعيينات التي لم يتم تأكيدها الخبير في السياسة الخارجية، «سام باركر»، الذي سيكون مديرا لشؤون إيران بوزارة الخارجية، والذي عمل سابقًا كبير مستشاري ماكغورك أثناء عمله في منصب المبعوث الرئاسي الخاص للولايات المتحدة للتحالف الدولي لمواجهة داعش، كما شغل سابقًا منصب مدير لشؤون العراق في مجلس الأمن القومي بين عامي 2011 و2013، ومديرا لشؤون سوريا بالمجلس بين عامي 2013 و2014 خلال إدارة أوباما. وبالمثل، من المتوقع أن يتم تعيين «زهرة بيل»، الخبيرة في الشأن السوري، قريبا مديرة لملفي العراق وسوريا في وزارة الخارجية. ومثل باركر، عملت بيل سابقًا تحت قيادة ماكغورك في دور مبعوث مكافحة داعش، وهي تُجيد العربية وعملت في الشرق الأوسط سنوات، كما أنها ظلت تشغل منصب الرئيس السياسي لفريق الاستجابة للمساعدة في فريق الانتقال السياسي في سوريا ومقره إسطنبول. وفي مناطق أخرى من الشرق الأوسط سيتعامل «ماكس مارتن» المستشار السابق للمبعوث الأمريكي إلى سوريا مع المخاوف الأمريكية في كل من لبنان والأردن، بينما سيتعامل «جوش هاريس» مع قضايا شمال إفريقيا، حيث شغل في السابق كبير دبلوماسيي الولايات المتحدة في ليبيا قبل عام 2019. بالإضافة إلى ذلك، من المقرر أن تصبح ضابطة الخدمة الخارجية، «إيفينيا سيديريس»، مسؤولة الخارجية عن شبه الجزيرة العربية، حيث عملت كل من «سيديريس»، و«هاريس» في «أدوار رئيسية في شمال إفريقيا خلال إدارة ترامب». وفيما يتعلق بإسرائيل، كتب «باراك رافيد»، في موقع «أكسيوس»، أن المسؤولين الإسرائيليين كانوا «سعداء» بتعيين «ماكغورك»، وأن «جولي سوير»، التي سيتم تعيينها قريبًا مسؤولة الخارجية لإسرائيل وفلسطين، هي مثل معاصريها «تحظى بالاحترام من مؤسسات الأمن القومي والخارجية الإسرائيلية». وأوضح «ديتش»، و«جرامر»، أن سوير ستتولى منصبها «حيث تأمل إدارة بايدن في إعادة بناء العلاقات مع السلطة الفلسطينية وإحياء الجهود بشأن حل الدولتين في أعقاب خطة إدارة ترامب للسلام في الشرق الأوسط»، حيث تُعد سوير مساعد المبعوث الخاص لإدارة أوباما للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، ليست غريبة على المنطقة وقضاياها. من ضمن التعيينات من الإدارة السابقة، من المتوقع أن يتم تسمية «باربرا ليف»، المديرة الحالية للشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، كمساعد وزير خارجية لشؤون الشرق الأدنى، وكما أوضح «رافيد»، فإن «الأسباب الدقيقة للاختيار لا تزال غير واضحة»، فيما يدعم كل من «بايدن»، و«بلينكن» التعيين الجديد. ومع كون «ليف»، قد شغلت سابقًا منصب المسؤول الأعلى في الخارجية لشبه الجزيرة العربية، وكذلك سفير الولايات المتحدة لدى الإمارات في الفترة من 2014 إلى 2018، فليس مفاجئًا أن يتم تعيينها في هذه الوظيفة في وقت تمر فيه الشراكة الأمريكية الخليجية بما وصفته واشنطن بـ«إعادة التقويم». وتبقى مناصب مُساعد ووكيل الوزارة داخل الخارجية الأمريكية هي أعلى مستويات الوكالة الحكومية التي تلي وزير الخارجية نفسه، وبما أن كلا منهم يسيطر على منطقة من العالم فلا يمكن إنكار ما لهم من تأثيرات كبيرة على السياسة الخارجية. وأشار «رافيد» إلى أن «بلينكن» على وجه الخصوص «يريد ملء مناصب مساعد وزير الخارجية بموظفي خدمة خارجية محترفين مثل ليف، بهدف توفير الاستقرار والهدوء للسياسات على الصعيد الدولي بعد سنوات ترامب المضطربة». ومن بين المعينين الجدد لمنصب نائب مساعد وزير الخارجية في مكتب شؤون الشرق الأدنى «هادي عمرو»، الذي عمل سابقا كمسؤول في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية خلال إدارة أوباما، و«دانيال بنعيم»، المسؤول السابق في الوكالة ذاتها، وكاتب خطابات سابق لبايدن ومستشار الشرق الأوسط له حينما كان يشغل منصب نائب الرئيس في إدارة أوباما. وستنضم إليهم كذلك المُجندة السابقة بالجيش الأمريكي والأستاذة المساعد في جامعة فوردهام «آشا كاسلبيري هيرنانديز». ومن الجدير بالذكر أن هذه التعيينات الجديدة كانت قد تم توظيفها سابقًا من قبل إدارة أوباما في مناصب منخفضة عما هي عليه الآن؛ وذلك في نهج يتناقض مع الأسلوب الذي تبناه ترامب عند تشكيله مسؤولي حكومته، حيث كانت تتم دعوة شخصيات تجارية وعسكرية لتولي أدوار حكومية مدنية. ولاحظ كل من «ديتش» و«جرامر» أن «التعيينات المتوقعة» قد اتبعت «نمطًا تاريخيًا معتادًا تمثل في انتزاع مديري مجلس الأمن القومي السابقين من تولي الوكالات الحكومية الأخرى الأكثر نفوذًا». وعلق «نيكولاس هيراس»، من «معهد نيو لاينز للاستراتيجية والسياسة»، بأن بايدن سيختار مسؤولي حكومته من هؤلاء الذين كانوا لهم دور في إدارة أوباما وتمكنوا من البقاء في مناصبهم خلال إدارة ترامب، وأوضح «ماكغورك» أن بايدن الآن «يجمع فريقًا يمكن أن يلعب لحنًا متسقًا مع سياسته». وفي تعليقه، أشاد «جون غانس»، مؤلف كتاب «محاربو البيت الأبيض»، بجهود بايدن وتأسيسه فريقا متناسقا يتمتع بالخبرة والسياسة الخارجية على جميع المستويات، حيث قال: «خلال الكثير من الاجتماعات والفعاليات يتضح أن الولايات المتحدة عادت إلى قوة سياستها الخارجية.. هناك مسؤول بحق يتخذ كل القرارات المصيرية، ويفكر في مختلف الأمور والقضايا، ساعيًا لعمل تغيير لا بأس به عن السنوات الأربع الماضية». وكان التشابه في طابع وشخصية الفريق الذي اختاره بايدن لإدارة ملف السياسة الخارجية في الشرق الأوسط، وبين سابقه أوباما نقطة خلاف، ولا سيما مع احتمال أن ترتكب الإدارة الجديدة نفس الأخطاء مثل سابقتها. وحذر «ستيفن هايدمان»، من «معهد بروكينغز»، من أن هذه التعيينات تخاطر بتنفيذ «إعادة نهج أوباما» من قبل الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط على الرغم من أنه رحب أيضًا باحتمال ممارسة دور دبلوماسي أكثر حزما في المنطقة حيال بعض القضايا منها مستقبل سوريا. علاوة على ذلك، فإن تعيين عدد كبير من المسؤولين ذوي الخبرة يتعارض مع هدف جعل الشرق الأوسط في ذيل قائمة الأولويات الدولية الأمريكية، حيث أوضح كل من «ديتش» و«جرامر» أن واشنطن الآن «تتطلع إلى التمحور والابتعاد قليلاً عن المنطقة». وبدلاً من ذلك، تضع «تركيزها الأساسي على الصين». ويعد إحجام إدارة بايدن المبكر عن التدخل والتورط في المنطقة دليلا على ذلك. وكتب «ديفيد جاردنر» في صحيفة «فاينانشيال تايمز» أنه «في الأشهر الأولى من تولي بايدن منصبه استخدم البيت الأبيض الحالي الصمت باعتباره أداة دبلوماسية غير تقليدية لإعادة تقييم مواقفه إزاء قضايا الشرق الأوسط من جديد». ومع ذلك، جادلا أنه مع استمرار اكتساب القضية النووية الإيرانية اهتمام المجتمع الدولي إلى جانب «إعادة تقييم» الولايات المتحدة لمواقفها حيال حلفائها الخليجيين، فمن المحتمل أن المنطقة ستظل «محل اهتمام» واشنطن، وخاصة أن «فريق بايدن يسعى لإعادة إيران إلى طاولة المفاوضات مع محاولته التوسط في اتفاق سلام في اليمن». وهو ما يجعل هناك شعورا باستمرارية واستقرار الموقف الأمريكي تجاه المنطقة، ولا سيما في مجال مكافحة الإرهاب. ولاحظت «جويس كرم» في صحيفة «ذا ناشيونال» أن «ماكغورك معروف بإعطائه الأولوية في المقام الأول لمحاربة داعش»، وعلق عام 2019 بأن السعودية لديها «كل الحق في الدفاع عن نفسها ضد الهجمات الإيرانية». كما أشار «ويليام رويبوك»، من «معهد دول الخليج العربي»، إلى أنه يتوقع استمرارية إدارة بايدن في ممارسة دورها في المنطقة، مع توقع أن يظل الوضع الراهن من حيث المواقف الدبلوماسية والأمنية في مكانه من دون أدنى تغير». على العموم، تعد التعيينات الأخيرة من قبل بايدن في مجلس الأمن القومي، والبيت الأبيض، ووزارة الخارجية، بمثابة مؤشر واضح على أن الإدارة الجديدة ستسعى إلى اتباع سياسة خارجية مغايرة لما كانت عليه من خلال الاستفادة من الأفراد الذين عملوا في ظل إدارتي أوباما، وترامب، كما أنه من الواضح أن فريق السياسة الخارجية الجديد للشرق الأوسط يجمع بين الخبرة والنظرة الليبرالية التي ينبغي أن تعمل على تقديم المشورة والنصح للرئيس بايدن حول العديد من الأزمات خلال السنوات الأربع القادمة.
مشاركة :