لا يعلم لماذا تتراءى له تلك الصورة البعيدة من أيّام طفولته، عندما أهوى عصاه على «الدبور»، ليثبت لأصدقائه قدرته على تنفيذ ما يقول، فكان جزاؤه ليالي من الألمِ والسُّهاد بفعل اللدغة القاسية. ربّما لشعوره أنّه كرّر الحمَاقة نفسها، رغم سنين الخبرة والنضج، فجاءت اللدغة هذه المرّة، رهيبة، مُسمِّمة خلاياه، قاطعة الأمل في الخلود للراحة حتَّى الموت. ثمَّة طفل في الرابعة، وآخر في الثالثة، وطفلة تدرج على أربع، في حضن أمِّها، التي لا تبرح البيت، مدِّعية المرض، مكشِّرة عن أنيابها، كُلَّما أنّبَها على تقصيرِها تجاهه وتجاه أبنائها. سليلة أشرافٍ، كانت مُعزَّزة بين أهلها، في البلد البعيد - هكذا قيل له - وعليه أن يعيَ قبل أن يقترنَ بها، أنها لم تعتد الخدمة في البيوت، وتحتاج لبعض الوقت كي تتعلَّم الطبخ والكنس، والاعتناء ببيتها. لكنَّ السنين تمضي، وأعوام خمسة مثقلة بالصبر والأمل تمرَّ على الزواج الميمون!، دون أن تغيَّر شيئا في طباعها.. الإهمال، افتعال المشاكل، الكسل والضجر والسأم، الغرور والترفُّع، الرغبة بكنز المال بأيَّة وسيلة، النكد والوساوس المُحطِّمة لأعصابه. كلُّ ذلك ما زال شاخصا أمَام عينيه، مالئا قلبه المُثخن بجراحَاته، بآمالِه المحنيّة الظهر، بأحزانه الشاخصة، ألمَا يمتدُّ لجميع أعضاءِ الجسم، ممتزجّا بشعور بالخيبة لا يطاق، بالحسد حين تلحظ عينه أقرانه ناعمين بالسكينة والهدوء، في ظلّ التقاعد، فيما هو مبتلىً بتأمين لقمة عيش أبنائه، وتلبية طلبات زوجه. من يصدّق؟! الرجل الذي كان يدفع بسخاء للفقراء والمحتاجين، أصبح اليوم يعتمد على المساعدات والمنح المالية!، لكنه الطيش لا شك، جنون الكبر والغطرسة، والغرور الكذَاب، حين يعمي القلوب التي في الصدور عن رؤية الحقيقة... هناك في المطعم الشعبي، اقترب منه الشابُّ الخبيث، قال في صوت يشبه فحيح الأفعى قبل أن تنفثَ سمَّها: - تبدو جميلاً هذا اليوم. وصدَّق المسكين أنَّه ما زال شابا، وأنَّ من حقِّه أن يستمتع بما تبقى من حياته. كان قد تقاعد منذ سنوات، وأصبحت ساعات الفراغ كثيرة، وليس من شيء يمكن أن يمدّه بماء الشباب، أفضل من زوج صغيرة، قادرة على أن تضخ ّالروح في جسده، وأن تهبه عمرا جديدا. ويا لهَا من سَعَادة أن تستجيب لشيطان رغباتك، وتقترن بفتاة في عمر بناتك، وتخلِّف منها وأنت في هذا السن، راميا خلف ظهرك بعمر قضيته مع زوجك أمّ عيالك، تلك التي رافقتك في السرّاء والضّراء، وصبرت عليك واحتملت من طبعك السيء الكثير، وسهرت على راحتك وراحة أبنائك، ولم تبقَ فلسا واحدا في جيبها، حين احتجت للمال. وها أنت تعود لزوجك الأولى مخذول النفس مكسور الخاطر، تسألها وجبات الصباح والمساء، إذ لا طاقة لك على أن تطلبها من المطاعم، فلا تبخل عليك بشيء، رغم ما يرتسم على وجهها من الضيق، ويلوح على سُحنات بناتك، ويخرج من أفواههن. والحقُّ أنك كثيرا ما اختلست النظر إليهنّ، فرأيتهنَ يكدن يبكين حسرة وأسفا عليك، أنت الذي دفعت بك شهوة بعيدة الغور لأن تسقط في حفرة لا أمل في الخروج منها بعد الآن.
مشاركة :