لماذا أدلفُ إلى حياتي الشخصية، كلما طُلِبت مني شهادة إبداعية حول الشعر وألعابه المجنونة ومراياه ودنياه العجوز الشابة معاً، وأُسَوِّد الصفحات مزهواً بكل ما يهتك الأستار وينظر بعيون شرسة لسلالتي وعائلتي وزماني وشخصيتي الجبانة على الدوام؟ لماذا أفرحُ بشكل متجدد بمذكرات لويس عوض وخبز محمد شكري الحافي وكل ما شاكلهما في هذه اللغة أو تلك، وكأن المبنى والمعنى المتحرر، المنفلت من التأطير والاختناق في هذا الحيز أو ذاك، إنجازي الشخصي المتوهج؟ ولماذا أبتهج بأي مقاربة نقدية لديوان لي وهي تفكك بنياته لتكشف الغطاء عن خلفيات وأذرع وأصوات الرغبة العارمة في الكشف والاعتراف بكل آثامي الصحيحة والمتخيلة وأرسم في سبورتي وفضائي، وكيف أنها ستقلِب صورتي المنمقة الخجول المكتفية بالصمت والهروب من أسوار أصحاب النميمة الثقافية، الأفذاذ، وكأني أرقب وألمس وأعاين، بدون الجزع المعتاد، ولو لدقائق معدودة في الخيال، فضيحتي على المقاهي؟ يبدو أن اختياري غير الواعي للشعر، أو بالأحرى اصطياده لي وقبضه عليَّ، وأنا أهيم بين الأشكال التي تترى وهي تخايل شغف المخيلة – كقالب إبداعي مرن، ألعب عن طريقه مع هذا العالم الملتبس، لم يكن اختياراً مجانياً ولا عفوياً، حيث إنه ما يزال يثبت لي طول الوقت بكمالٍ وتمام، تلبُّسهُ الصادق والماكر لموقعي ووضعيتي النفسية والوعيية في هذه البقعة من العالم والتي لا تزال تنأى بنفسها عن ضوء الاعترافات القوي أو لا تحتمله في الحقيقة، رغم مواقع التواصل التي تبدو وكأنها وحش ساخر لابد وأن يغيرك وإلا التهمك لكن يبقى للعقليات والأرواح شئون ومقاومات أخرى حيث تتفنن جيلاً وراء جيل في اختراع مَصدَّات تحول دون بزوغ الحقائق وتنجح في نفيها باستمرارٍ مزمن وصلد.. كل هذا لا يرجع لأسباب اجتماعية فحسب ولكنها حضارية ودينية كذلك، معقدة ومتشابكة ومزروعة بما يكفي.. لهذا كان الشعر، الكائن ذو الوجوه المتعددة، الذي يتخفى وراء المجازات والصور والتخييل، ليصل بيني وبيني، هو الذي يُسَهِّل الأمر عند المواجهة: - إنه مجرد خيال يا أمي .. كذب، لكن .. - اعترفت إنه كذب، يعني خطيئة.. وسيغضب عليك الله صدقني.. تمام.. فلأعتذر وأعلن توبتي قبالتها وأخفي أمري في النهاية التزامي كموظف ملتزم وبسيط وهدر العمر في المجاملات التي ترضي الكبار، أهون من إقصاء العائلة القاسي على العاجزينَ عن التمرد العملي، أمثالي، أو الريبة التي تلاحقك في مجتمعك الصغير أينما حللت: في ردهات البيت والشارع والعمل، باعتبارك مُفسداً، بتحرركَ في الأفكار التي قد تسقط منكَ عفواً كلما تحدثت، حتى بشِعرك ذاته، الغامض الذي كأنهُ تعاويذ الشيطان، ذلك الذي كلما تجلى وملأت بيارقه السماوات وطبوله الساحات، لا يظهر وينير إلا من خلال صوتك وصفحاتك وحروفك ودقات قلبك المرتبكة. لهذا يظل دعاؤك اليومي الصادق هو ألا يسقط قرار المقاطعة على رأسك في أي يوم وألا يحيا ويكتسب كل يوم مستضيفين جدداً. الغريب في الأمر أنني أدرك الآن، وبشكلٍ قاطع أنه لولا هذا المناخ المَرَضي ولولا خوفي المتشعب في خلاياي والمهيمن والراسخ رسوخ الجبال، ما كانت الأشباح ستخرج من دماغي لأسجنها على هيئة قصائد. لولا التربية المغلقة والطفولة المقموعة وحتى الشباب والنضج الرازحان تحت سطوة الكبار وأزمانهم التي لا تتحرك سريعاً إلا للخلف: ما كنتُ شاعراً. نحن في الشرق الأوسط سنبقى مبدعين بطبيعة الأحوال وتجلياتها وبلاغتها السوداء المتجددة وسنبقى مَرْضَى، ربما لفتراتٍ أبعد مما نظن.
مشاركة :