أثار انتباهي ما ورد في برنامج لأحد رجال الدين إذ قال إنه في أثناء تنقل أحد الأشخاص في شوارع الصين رأى برجاً عالياً ضخماً وعليه يافطة ملفتة للنظر مكتوب عليها باللغة الصينية، فسأل هذا الشخص العربي صديقه الصيني عن معنى العبارة المكتوبة، فأجابه بأنها قول لشخص عظيم: “لو كان الفقر رجلاً لقتلته”. إنجاز آخر يسجّل للصين التي أبهرت العالم في صعودها السلمي بدءاً من إطلاق عملية الإصلاح والانفتاح في العام 1978 إذ تمكن العملاق الآسيوي من القضاء على الفقر المدقع. لقد أذهلت الصين العالم في احتلال اقتصادها المرتبة الثانية عالمياً، ومن المتوقع أن يصبح الأول عام 2028 ، بعد أن كانت تعاني الفقر والجوع والحرمان. كما أنها خاضت معركة شرسة مع وباء كوفيد 19 وتمكنت من الانتصار عليه، ولم سدفعها الفيروس للتأخر عن الموعد الذي حددته للقضاء على الفقر المدقع. وفي الوقت الذي تعاني فيه اقتصاديات دول العالم انكماشاً حاداً بسبب فيروس كورونا المستجدّ نجح اقتصاد الصين في تحقيق نمو في العام 2020 ، وأعلنت بكين نيتها تحقيق معدل نمو يزيد عن 6% خلال هذا العام. كما أعلن الرئيس شي جين بينغ يوم 25 شباط/ فبراير 2021 أن الصين حققت “انتصاراً كاملاً” في معركتها ضد الفقر”. وجاء هذا الإعلان خلال كلمة ألقاها الرئيس الصيني أمام تجمع كبير عقد في بكين للاحتفال بإنجازات البلاد في القضاء على الفقر المدقع وتكريم نماذجها المثالية في مكافحة الفقر. وأشار في هذا الصدد إلى أن 98.99 مليون من سكان الريف عبروا خط الفقر، وجرى انتشال 832 محافظة و 128 ألف قرية من المناطق الفقيرة، واستثمرت البلاد في مكافحة الفقر على مدى السنوات الثماني الماضية حوالي 246 مليار دولار. من كان يتخيل أن البلد الذي تعرض إلى مجاعة كبرى من العام 1958 إلى 1962 تسببت بوفاة عشرات الملايين من البشر أن يتغلب على الفقر المدقع ويحصل على إشادات دولية بهذا الإنجاز . فبعد أن أعلنت الصين تغلبها على الفقر المدقع هنأها أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على ذلك. منذ المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني في أواخر عام 2012 ، تم تضمين التخفيف من حدة الفقر في “الخطة المتكاملة ذات المجالات الخمسة” و “الاستراتيجية الشاملة ذات المحاور الأربعة” . في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 ، أصدر مجلس الدولة الصيني قرارًا بشأن الانتصار في مكافحة الفقر، ووضع خطة شاملة لأعمال الحد من الفقر حتى عام 2020. كما حددت الصين يوم 14 تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام يوماً وطنياً لمكافحة الفقر، وهذا يدلّ على جدّية حكومة الصين في تحقيق الاصلاحات وتحقيق مجتمع الحياة الرغيدة على نحو شامل. اعتمدت الصين في معركتها ضد الفقر المدقع في المناطق الريفية على المثل القديم “لا تعطني سمكة بل علمني الصيد”، فهي لم تلجأ إلى توزيع الأموال على السكان في المناطق الريفية النائية البعيدة، بل اعتمدت على اصلاح نظام الأراضي الزراعية وتحسين البنى التحتية فيها وعبدّت الطرق وأدخلت الكهرباء والإنترنت وشجعت على زيادة الاستثمارات فازدادت فرص العمل التي قللت من الهجرة إلى المدن الرئيسية، كما طورت التعليم والصحة ومنظومة الضمان الاجتماعي. ومن جهة أخرى، عملت على مكافحة الفساد لأن ذلك يعتبر جزءاً لا يتجزأ من جهود الحد من الفقر والجوع. لقد أدرك الرئيس شي جين بينغ أثر الفساد على زيادة الفقر، لذلك أطلق منذ توليه سدة الرئاسة حملة لمكافحة الفساد أسفرت عن محاسبة عدد كبير من المسؤولين الحاليين والسابقيين. فمثلاً في 29 كانون الثاني/ يناير الماضي أعدمت الصين مسؤولاً مصرفياً أدين بتهمة تلقي رشاوى وتهم فساد أخرى. وفي شهر شباط/ فبراير الماضي أعلنت وكالة مكافحة الفساد في الصين، أن الحزب الشيوعي طرد قائد شرطة شنغهاي السابق قونغ داوان من صفوفه ، تمهيداً لمحاكمته بتهم الفساد. ولم يكن من الممكن للصين أن تتغلب على الفقر المدقع، خلال الوقت الذي حددته، لولا عزم وإصرار قادتها ومسؤوليها وشعبها على تحقيق ذلك. فقد تولى الرئيس شي جين بينغ شخصياً الاطلاع على عملية القضاء على الفقر المدقع. فمنذ انعقاد المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني في العام 2012، ترأس شي جين بينغ ندوات مركزية للتخفيف من الفقر، وقام بزيارات ميدانية للأرياف واطلع على الوضع الفعلي لأحوال الفقر والأعمال لمساعدة الأسر الفقيرة على التخلص من الفقر، وأجرى محادثات مباشرة مع الفقراء ليرى التغيرات الهائلة التي أحدثها التخفيف من حدة الفقر، وقال الرئيس إن الابتسامات الصادقة لجماهير الشعب الذين تم تخليصهم من الفقر هي أعظم تأكيد على مكافحة الفقر. إن الدول العربية اليوم إذا أرادت التقدم والتطور والتغلب على الفقر واللحاق بركاب الدول المتطورة عليها أن تعتمد على التجربة الصينية، وإن كانت ظروف الجانبين مختلفة نوعاً ما عن بعضها البعض. لقد صنَّفت منظمة الأمم المتحدة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سنة 2019 ضمن فئة أكثر مناطق العالم فقراً ، وأشار تقرير صادر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا “الإسكوا” في حزيران/ يونيو 2020 إلى انضمام 16 مليون شخص إضافي إلى فئة الفقراء والمعوزين، باحتساب كل خطوط الفقر، وفقدان المنطقة العربية لما يفوق 6 ملايين وظيفة في عام 2020 بسبب جائحة كورونا. وبحسب “الإسكوا” سيصل عدد الفقراء في عام 2021 إلى حوالي 116 مليون نسمة يقيم أكثر من 80 بالمائة منهم في مصر، اليمن، سورية والسودان، ومن المتوقَّع أن تؤدِّي جائحة كورونا إلى رفع نسبة الفقر المدقع في الدول العربية لتصل إلى 33.3 بالمائة، أي ما يعادل 9.1 ملايين شخص عند خط الفقر المحدَّد بـ 1.9 دولار أو أقل في اليوم في عام 2021. وتعاني العديد من الدول العربية التي تملك كميات ضخمة من البترول والغاز من تفاقم الفساد الذي يأكل عوائد التنمية فيها. وإضافة الى الأخذ بالتجربة الصينية والعمل على تحقيق التنمية ومكافحة الفساد وتطوير الصحة والتعليم والنظام الاجتماعي ، يجب من ناحية أخرى أن يكون هناك إصرار ومثابرة وإرادة من قبل الرؤساء والشعب معاً من أجل العمل للقضاء على الفقر وليس فقط شعارات انتخابية أو خطابات لدغدغة العواطف. ويجب العمل على تأمين الاستقرار الأمني والسياسي لجذب الاستثمارات والابتعاد عن الحروب والصراعات التي لم تجلب سوى الخراب والدمار للمنطقة العربية. ولا شيء يمنع الطلب من الصين المساعدة في مكافحة الفقر وخاصة أن الأخيرة قد مدّت يد العون للدول النامية فقد أنشأت الصين صندوق السلام والتنمية بين الصين والأمم المتحدة، وصندوق مساعدة التعاون بين الجنوب- الجنوب، وأقامت بشكل مشترك العديد من الأطر، ومنها المشروع التجريبي للتعاون للحد من الفقر في شرق آسيا، وخطة الصين وأفريقيا للحد من الفقر ورعاية الناس. ووفقاً لتقرير نشره البنك الدولي في العام 2019، من المتوقع أن تنتشل مبادرة الحزام والطريق 7.6 مليون شخص من الفقر المدقع، و32 مليوناً من الفقر المعتدل في جميع أنحاء العالم. وأعلنت الصين مراراً استعدادها لمساعدة الدول النامية لمكافحة الفقر من أجل بناء عالم خالٍ من الفقر وبناء مجتمع ذي مستقبل مشترك، ففي كلمته بالدورة السنوية الأولى للمجلس الوطني الثالث عشر لنواب الشعب الصيني، في العشرين من آذار/ مارس 2018، قال الرئيس الصيني: “العالم الذي نعيش فيه مفعم بالأمل وممتلئ بالتحديات. والشعب الصيني لديه دائما الشعور بالعدالة والتعاطف، ويربط دائما مصيره بمصير شعوب جميع البلدان برباط وثيق، ويهتم دائما ويساعد بدون أنانية شعوب البلدان المعنية التي لا تزال تعيش في الحروب والاضطرابات والجوع والفقر، ودائما على استعداد لبذل قصارى جهده للمساهمة في السلام والتنمية للبشرية.” وأخيراً أن مهمة الصين في القضاء على الفقر لم تنتهِ بعد إذ يجب عليها العمل للحيلولة دون وقوع المواطنين مجدداً في براثن الفقر ومواصلة المراقبة والتتبع لتحقيق بناء مجتمع الحياة الرغيدة الذي تسعى إليه وتحقيق الحلم الصيني الذي أشار إليه الرئيس الصيني، بالإضافة إلى مساعدة الدول الأخرى للقضاء على الفقر من أجل بناء مجتمع المصير المشترك للبشرية.
مشاركة :