قبل أيام حلّقت قاذفات "بي-52" فوق الشرق الأوسط للمرة الرابعة منذ أن أصبح جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة، فقد أعلنت واشنطن أن هذه العمليات ترتبط بغياب الاستقرار في المنطقة، لكن من الواضح أنها توجّه رسالة إلى إيران. نظراً إلى الواقع السياسي والعسكري الذي تحاول إيران خلقه، وبما أن الإيرانيين لم يتأثروا بتحليق قاذفات "بي-52" بل اعتُبرت تلك العملية مجرّد استعراض عابر، يجب أن تُغيّر إدارة بايدن مقاربتها عبر تقوية موقعها التفاوضي من دون إطلاق أي تحرك عسكري حاسم. لم يكن تحليق القاذفات مهماً على أي مستوى، وربما زاد التهديد الظاهري نتيجة ضم اثنين من أكبر أعداء إيران إلى العملية، أي إسرائيل والمملكة العربية السعودية، لكن بقي الأثر العام محدوداً، حيث تتوق إسرائيل على ما يبدو إلى ضرب إيران لكنها تعتبر نفسها مقيّدة بقدر الولايات المتحدة، ولا يمكن التأكيد على مدى استعداد إسرائيل لشن ضربة مماثلة لأن التحركات العسكرية قابلة للفشل، وقد يُضعِف أي فشل مماثل مصداقية التهديدات الإسرائيلية. قد يقتنع الكثيرون بأن إسرائيل، بعد مشاركتها في العملية الأخيرة، ستتمكن من إطلاق العنان لنفسها بلا رادع، أما المشاركة السعودية، فهي تؤكد على عزلة إيران غرب الخليج ووقوفها وحدها في هذا الصراع، إلا إذا أبدت روسيا استعدادها لأخذ المجازفات. لكن تُعتبر قطر أهم جهة مشارِكة في تلك المهمة، فلطالما كانت قطر أكثر وداً في تعاملها مع إيران وهي تتولى دور الوساطة في المفاوضات الأميركية الإيرانية، لذا يؤكد استعداد قطر للانضمام إلى القاذفات الأميركية على الاستياء القطري من عدم مرونة إيران واحتمال تدهور العلاقات بين البلدين. إذا كان الوضع الجيوسياسي يرتكز على المؤشرات المسبقة، فقد نتوقع تغيّر موقف إيران وتجديد الاتفاق النووي في ظل هذه التطورات كلها، لكن يكون العالم الجيوسياسي أكثر بساطة وتعقيداً في آن، فإيران تسعى في المقام الأول إلى إعادة إحياء اقتصادها ومنع أي هجوم غربي، ويجب أن تحرص على بقاء العراق عاجزاً عن طرح تهديد عليها، مما يعني أنها مضطرة لبذل قصارى جهدها للحفاظ على الفوضى هناك أو حرمان الولايات المتحدة على الأقل من قاعدة آمنة قد تستعملها للتحرك في المنطقة حين تشاء. لا تستطيع إيران أن تترك العراق ولن تتخلى عن حلفائها في اليمن وأماكن أخرى، لأن إثبات قوتها الإقليمية الحقيقية هو أساس أمنها، كذلك لا تستطيع طهران أن تظهر في موقف ضعف أمام شعبها، لكنها لن تتحمل أيضاً استمرار العقوبات الغربية. من الناحية الجيوسياسية، تعتبر الولايات المتحدة إيران لاعبة صغيرة كونها تعجز عن التأثير على مصالحها في أماكن مثل الصين. لكن من الناحية السياسية، تحولت هذه المسألة الجيوسياسية الصغيرة إلى مشكلة كبرى بسبب هجوم بايدن على سياسة ترامب، وإيران تدرك أهميتها بالنسبة إلى واشنطن، وهذا ما يعطيها حساً بالأمان. باختصار، لا تزال إيران في موقع جيد، باستثناء العقوبات التي تتعرض لها وتسعى إلى التخلص منها لكنها تبقى أهم ورقة ضغط يملكها الأميركيون، إذ كان ترامب يؤيد فرض العقوبات وترك إيران تتدبر أمرها بنفسها، وما لم تُجبِر عمليات تحليق القاذفات إيران على زيادة مرونتها سريعاً، وهو أمر مستبعد على الأرجح، فلن تختلف الخيارات المتاحة أمام بايدن عن تلك التي واجهها ترامب، أي زيادة العقوبات لمعرفة مدى قدرة إيران على الصمود، وهذه المقاربة لا تحمل مجازفة كبرى على الأميركيين، لكنها مسألة وجودية بالنسبة إلى طهران. في النهاية، يبقى الواقع الجيوسياسي أقوى من أي عوامل أخرى ويصعب أن يتصدى له أي مسؤول، فقد واجه عدد كبير من القادة السياسيين هذا النوع من المواقف، ويبقى تدمير الدول من دون إطلاق الحروب صعباً، لكن لا تستحق إيران أن يشنّ ترامب أو بايدن حرباً من أجلها!
مشاركة :