أزمات متتالية يمر بها لبنان لعل أسوأها انهيار العملة الوطنية وفقداتها لأكثر من 85 بالمائة من قيمتها، ما ينذر بانهيار شامل قد ينتج عنه مالا تحمد عقباه. فما هي أسباب هذه الأزمة؟ وما هي مفاتيح الحل؟ يخشى محللون من حدوث انهيار شامل في لبنان بعد التدهور المريع في العملة المحلية ما قد يدخل البلاد في نفق مظلم أيام صعبة للغاية يعيشها لبنان، يئن فيها الشعب تحت وطأة أزمة اقتصادية هي الأسوأ في تاريخه، حيث تتزامن مع انسداد سياسي تسبب في عدم تشكيل حكومة مستقرة حتى اليوم، ما يعرقل الكثير من الخدمات المقدمة للمواطنين ويدفع بالبلاد إلى شفير الانهيار التام. السير نحو الهاوية وأسوأ انعكاسات الأزمة هو الانهيار المستمر لليرة اللبنانية مقابل الدولار، حتى وصل سعر الدولار في السوق السوداء إلى نحو عشرة آلاف ليرة وخسارة العملة الوطنية لأكثر من 85 بالمائة من قيمتها ما تسبب في وقوع الكثير من الاشتباكات بين المواطنين والعاملين في المتاجر والأسواق خصوصاً بسبب التدافع لشراء السلع المدعومة من الدولة والخلاف على أسعار السلع التي تضاعفت بشكل جنوني مع انهيار القدرة الشرائية للمواطنين. وإعلان الحكومة التوقف عن سداد الديون الخارجية وإغلاق البنوك أمام العملاء من حين إلى آخر وتشديد القيود على عمليات سحب العملات الأجنبية، شدد الأزمة وانعاكساتها على حياة المواطنين. وعبثاً حاولت الحكومة احتواء الوضع عبر تدابير مختلفة، كدعم سلع استهلاكية وملاحقة المتاجرين بالعملة. لكن تدهور الليرة شكل ضربة قاصمة للجهود والنزيف مرشح للاستمرار. فمن شأن نفاد احتياطي المصرف المركزي من الدولار الذي يُستخدم بشكل رئيسي لدعم استيراد القمح والمحروقات والأدوية، أن يجعل الدولة عاجزة عن توفير أبسط الخدمات. ويؤخذ على مصرف لبنان المركزي استمراره في طبع العملة ما يفاقم، التضخم المفرط أساساً، عوضاً عن اتخاذ إجراءات حاسمة للجم التدهور وإعادة بناء ثقة المودعين بالمصارف وجذب الأموال من الخارج وتوحيد سعر الصرف، حسب رأي المراقبين للأزمة اللبنانية. أسباب أربعة للأزمة وترى الدكتورة ليلى نقولا أستاذة العلاقات الدولية بالجامعة اللبنانية، أن هناك أكثر من عامل وراء الأزمة الاقتصادية في لبنان أولها "السياسات الاقتصادية التي كرسها رفيق الحريري في التسعينات من القرن الماضي عندما وضع سياسة نقدية ريعية تعطي مجالاً للخدمات على حساب الاقتصاد المنتج"، وتضيف بأن "هذه السياسة كان من المنتظر أن تصل إلى مرحلة يفلس فيها الشعب اللبناني وتفلس مؤسساته، لأن الاقتصاد لا يمكن أن يقوم على الريع دون إنتاج فعلي". وتتابع الدكتورة ليلى في حوارها مع DW عربية أن "السبب الثاني هو الفساد والنهب المنظم لخزينة الدولة اللبنانية، فهناك تقارير تشير إلى نهب حوالي 52 مليار دولار من خزينة الدولة لا يُعرف كيف صُرفت ولا أين تبددت! والمطلوب حالياً من التدقيق الجنائي الآن هو أن يتابع مسار تلك الأموال المنهوبة". لكن وحسب نقولا فإن "هناك طبقة سياسية مارست نهباً منظماً لخزينة الدولة على مدى 30 عاماً لا تريد لهذا التدقيق الجنائي أن يتم؛ وبالتالي هي تتلاعب بسعر الدولار وبمصير الشعب لكي تغطي على فسادها ولكي تكرر ما فعلته هذه الطبقة السياسية نفسها التي شاركت في الاقتتال الأهلي في البلاد، وفي نهاية الأمر صدر لها عفو عام عن كل ما ارتكبته من جرائم وهي اليوم تريد الوصول إلى النتيجة نفسها وأن تحصل على عفو عام عن الجرائم المالية التي وقعت في لبنان منذ التسعينات وحتي اليوم". أما العامل الثالث بحسب خبيرة العلاقات الدولية فهو "التهريب وخصوصاً الدولار والمواد الغذائية المدعومة إلى الخارج، إضافة إلى جشع التجار"، فيما حدت السبب الرابع بأنه خارجي، "فلا شك أن ضغوط ترامب على إيران وحلفائها أدت إلى الضغط على الاقتصاد اللبناني ونظامه المصرفي، ما أدى إلى وقف التحويلات الخارجية وأدى الى عدم التعامل مع القطاع المصرفي اللبناني بشكل مريح". الأسوأ لم يأت بعد؟ وبحسب تقرير نشره مرصد الأزمة بالجامعة الأمريكية في لبنان، فإن الأسوأ لم يأت بعد وإن البلاد على شفا انهيار شامل لن يطال الاقتصاد وحده. ويشير التقرير إلى أن السبب الرئيسي للأزمة هو عدم وجود سياسة متكاملة لمواجهة الأزمة الاقتصادية، إلى جانب غياب الإرادة السياسية الحقيقية للحل والمواجهة. لكن الدكتورة ليلى نقولا أستاذة العلاقات الدولية بالجامعة اللبنانية، ترى أنه من غير الممكن التنبؤ بما يمكن أن يكون عليه الوضع في لبنان. وتضيف بأنه "بات المجال مفتوحاً لكافة الاحتمالات، فالطبقة السياسية لازالت تتلاعب بمصير الشعب والبلاد وهي غير مستعدة لتقديم أي تنازلات لكي تحسن من الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي أصبح ضاغطا على اللبنانيين ويهدد بانفجار شامل". ويوحي أداء القوى السياسية أنّها منفصلة عن الواقع، رغم ضغوط دولية قادتها فرنسا خصوصاً لتشكيل حكومة. ويصطدم تشكيل الحكومة الجديدة بشروط وشروط مضادة واتهامات متبادلة بالتعطيل بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري منذ 22 تشرين الأول/أكتوبر! وتشير تقارير صحفية إلى أن تشبّث رئيس الجمهورية وتياره السياسي بالحصول على حصّة حكومية مرجحة هو ما يعيق ولادة الحكومة، رغم أنه ينفي ذلك. ولم تنجح مبادرات محلية وخارجية حتى الآن في تقريب وجهات النظر. ويقول مصدر دبلوماسي عربي في بيروت لوكالة فرانس برس: "تسمح المعطيات الراهنة بتشكيل حكومة اليوم، لكن قياساً على سلوك القوى السياسية الموجودة وحساباتها التي يبدو أنها لم تتغير، فهناك تعطيل متبادل قد يستمر لأشهر". ويضيف "قدمنا حلولاً كثيرة لكن الداخل لم يتلقفها". مفاتيح الحل وتعتقد الدكتورة ليلى نقولا أن مفتاح الحل يجب أن يكون من الخارج إلى الداخل وليس العكس، مشددة على أن هذا الأمر في حد ذاته هو مشكلة فعلية، مضيفة أن أي تسوية إقليمية أو انفراج في الإقليم سيؤدي للضغط على الفرقاء اللبنانيين للقبول بتسوية. وتقول "نحن نعرف أن هناك اليوم رئيس حكومة مكلف وهناك شروط سعودية عالية على دخول سعد الحريري في حكومة يكون فيها حزب الله، وهذه الشروط تبدو تعجيزية في الساحة اللبنانية لأن تعقيدات المشهد في لبنان تقول إنه لا يمكن لأحد أن يشكل حكومة لبنان دون أن يكون فيها على الأقل شخص يسميه حزب الله وإن لم يكن حزبياً". ويرى خبراء ومحللون أن كافة الفرقاء في لبنان بل وفي المنطقة ينتظرون لحظة جلوس الرئيس الأمريكي جو بايدن مع الإيرانيين على مائدة المفاوضات وأنه من اليوم وحتى تحين تلك اللحظة يقوم الكل بجمع أوراقه ليضعها على طاولة التفاوض حين يأتي هذا الوقت. وتختتم أستاذة العلاقات الدولية بجامعة بيروت حديثها بالقول إن "مفتاح الحل في رأيي هو بداية التسوية الإقليمية التي ستنسحب على لبنان وبعدها يجب أن تكون هناك ضغوط دولية كما يفعل اليوم صندوق النقد الدولي والدول المانحة للقيام بالإصلاحات، وأيضاً يجب وجود ضغوط على السلطة السياسية لإقرار التدقيق الجنائي وإلا سيكون هناك نوع من الهدنة بين اللبنانيين أشبه بسياسة الترقيع، تمهد لانفجار فيما بعد طالما لم يوجد حل مستدام يؤدي إلى انفراج حقيقي في لبنان". عماد حسن
مشاركة :