هذا كتاب للشاعر ناجي بن داود الحرز، أراد منه مؤلفه توثيق إنجازات منتدى الينابيع الهجَريَّة، الذي أنشأه في واحة الأحساء سنة 1407 فإذ به توثيق للشعر والشعراء في الأحساء على مدى أربعة القرون الأخيرة. صدر عام 1441/2021 في خمسين وسبعمائة صفحة من الحجم المعتاد عن دار روافد ببيروت، ومكتبة ديوان الفرزدق بالأحساء. يتألف الكتاب من ثلاثة أبواب، في الباب الأول حكى لنا المؤلف قصة تأسيس المنتدى، وتضمن الباب الثاني نماذج مما كان يقدم في الجلسة، أما الباب الثالث فقد خُصص لحكايات الشعراء، كما ضم الكتاب - فضلا عن المقدمة والخاتمة - ملحقا لمعرض الصور. يقول الأستاذ ناجي إن المنتدى ابتدأ عام 1407 في منزله بحي (الخَرْس) الذي عُرف فيما بعد باسم (الفيصل) وأن الفكرة بدأت من لقاءٍ دوري لمجموعة من الأصدقاء عددهم سبعة ليس غير. ولكن الفكرة كانت واضحة في ذهن المؤسس فقد استفاد من اطلاعه على منتديات الأدباء في العراق والشام ومصر، فكانت الجلسة الأسبوعية تتناول قراءات شعرية من الأعضاء يبدي بعدها الحاضرون آراءهم وملاحظاتهم، ثم أضيف بعد ذلك إلى القراءات والنقد قراءات في مراجع النقد العربي القديم مثل كتاب (الصناعتين) لأبي هلال العسكري و(العمدة) لابن رشيق و(الكامل) للمبرد. بدأ شعراء الأحساء ينضمون للمنتدى يوما بعد آخر وشاعرا بعد شاعر، وكان من أبرز من لحق بالركب عام 1410 جاسم الصحيح بعد عودته من بعثة للدراسة في إمريكا، وفي عام 1413 قام نفر من أعضاء المنتدى بزيارة الشاعر الأديب محمد العلي في مقر سكنه في (الخبر) واستمع إليهم وإلى قصائدهم وعلق عليها، ثم كتب في زاويته (كلمات مائية) بجريدة (اليوم) مقالا بعنوان (غصنان) سجل فيه انطباعه عن شاعريْ الأحساء ناجي الحرز وجاسم الصحيح. انتقل المنتدى منذ عام 1414 خطوة أخرى نحو تحقيق الأهداف وضبط المسار ورسم خارطة طريق لاستثمار وقت الجلسات إلى أقصى ما يمكن. ومن هذه التنظيمات تقسيم العام لفترتين من ستة أشهر لكل فترة، واختيار مدير للجلسات طوال الفترة، والمدير يختار نائبا وسكرتيرا، مع بقاء رئاسة المنتدى لمؤسسه. ويمضي المؤلف في سرد تاريخ المنتدى فيقول إن اسمه مر بأربع مراحل، ففي البدء كان اسمه شعراء الخميس لأن أمسياته كانت تقام يوم الخميس، ثم صار اسمه ملتقى الجمعة الأدبي لما صارت جلساته كل جمعة، ثم منتدى شعراء الأحساء وأخيرا: منتدى الينابيع الهجرية. أما مقره فكان في منزل المؤسس ثم في بستان له، كما شارك بعض الأعضاء في استضافة بعض الجلسات في منازلهم أو مزارعهم أو استراحاتهم. ومنذ عام 1429 استقر في بستان اشتراه مؤسس النادي في موقع يتوسط قرى الأحساء. تولِّي مديرٍ لكل دورة أدخل التجديد على برامج المنتدى، فحين تولى عباس العاشور الدورة خصصها لقراءة الشعر الجاهلي ودراسته ومناقشة قضاياه، فتناول المنتدون المعلقات، والظواهر الاجتماعية في العصر الجاهلي، والشعراء الصعاليك، والرواية والتدوين، وغيرها. في جلسات الاستماع والنقد هذه بدأ شعراء المنتدى يشعرون بكيانهم ويثقون بقدراتهم، وشجعهم المنتدى لإصدار دواوينهم التي كانوا مترددين في إصدارها، فظهرت خلال سنوات قلائل دواوين كثيرة كان لها صدى واسع بين الأدباء والنقاد، مثل غازي القصيبي وفاضل خلف الكويتي، ومحمد العلي الذي كتب مقدمة أحد دواوين جاسم الصحيح. هذه الدفعات المعنوية للمنتدى جعلت المنتدى يتخذ عدة مسارات؛ منها مسار إقامة الأمسيات الشعرية في أنحاء الأحساء، ومسار نشر نصوص شعراء المنتدى في الصحف والمجلات المحلية. ونتيجة تشجيع المنتدى لأعضائه انخرط عدد منهم في المسابقات الشعرية التي تقام هنا وهناك، وحصدوا الجوائز من مختلف المؤسسات حتى بلغ عددها ستًّا وخمسين، منها جوائز مهمة مثل أمير الشعراء لحيدر العبدالله عام 1437، وجائزة سوق عكاظ لجاسم الصحيح 1438، وجائزة شباب عكاظ لناجي حرابة عام 1431 وحيدر العبدالله 1436. فضلا عن جوائز الأندية الأدبية بالمملكة والجامعات المحلية والعربية. وإضافة لما بذله الحرز لدعم أعضاء منتداه، ظل يكتب عنهم بنفسه، ويدفع غيره للكتابة عنهم، فكتب مقالا في صحيفة اليوم بعنوان (أين جاسم الصحيح يا نادي الشرقية الأدبي؟) على إثر صدور معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين مغفلا اسم الشاعر الكبير، ومحملا نادي الشرقية الأدبي مسؤولية تجاهله. كما نشر سلسلة مقالات تحت عنوان (شعراء قادمون من واحة الأحساء) ثم طبعها في كتاب بالعنوان نفسه عام 1429 وفي عام 1434 بمناسبة اليوبيل الفضي للمنتدى أصدر (معجم منتدى الينابيع) ضم سبعة وثلاثين ومائة شاعر؛ هم أعضاء المنتدى آنذاك. واعترافا بجميل المنتدى وصاحبه كرّمهما نادي الأحساء الأدبي بعد ثلاث سنوات من إنشائه إبان إقامته مهرجان (جواثا) وتسلم مؤسس المنتدى الجائزة من سمو أمير محافظة الأحساء. ظل منتدى الينابيع منذ إنشائه نائيا عن أي تحزب، معنيا بالشعر وحده، بكل ألوانه وفنونه، فمن الشعر الفصيح للعامي، ومن الشعر العمودي لشعر التفعيلة والنثيرة. وفي هذا الصدد يقول الشيخ يحيى الراضي في شهادته: «كثير من المنتديات الأدبية تشكلت على أساس مشاريع أو ميول، منها ما هو أيدلوجي، وكثير منها على أساس التحزب لشكل أدبي أو شعري، عمودي وتفعيلي ونثري، حداثي أو تقليدي أو وسطي، وهذا التكتل غير ملحوظ على ملامح (الينابيع الهجرية) إنما يمكن ملاحظة بروز الهوية الأحسائية كطابع تلقائي». [ص248] وعرض الباب الثاني نماذج مما قُدِّم في جلسات المنتدى، بعد أن استقرت الرؤية فصارت الجلسة تفتتح بالقرآن الكريم وتفسيره، ثم تتنوع المداولات وغالبا ما تضم شرحا لقاعدة نحوية أو بلاغية وإثراء للذاكرة بعرض النصوص العربية مع إلمامة بأحدث نظريات الآداب العالمية. أما الباب الثالث فتناول حكايات الشعراء أعضاء المنتدى، وهي عبارة عن حكاية الشاعر مع المنتدى وذكرياته معه وظروف انضمامه وانطباعه العام، ويتلو ذلك استدراك المؤلف لما تركه الشاعر إما اختصارا أو تواضعا، وغالبا ما يضيف شواهد من شعره تدعم وجهة نظره. وفي شهادات الشعراء ما يكمل لنا حكاية المنتدى، فيقول محمد الجلواح: «ولولا وجود ناد أدبي رسمي في الأحساء لم أكن أتردد أن أطلق عليه (نادي الينابيع الهجرية الأدبي) لما بقوم به من أنشطة مماثلة للنادي بل ربما فاق النادي في بعض الجوانب والوجوه». [ص380-381] ويضيف الجلواح: «ولا بد أن أشير وبشكل واضح إلى نقطة هامة، وهي أن الأستاذ ناجي يتحمل من ماله الخاص، ومن مصروف أسرته كل ما تحتاجه الجلسة الأسبوعية من تكاليف مادية دون كلل أو ملل أو تذمر، ودون أن يطلب من أعضاء المنتدى أي شيء، بل ويرفض أي مبادرة لمشاركته قي ذلك». [ص381-382] وللشاعر جاسم عساكر كلام لطيف عن شروط الانضمام للمنتدى، إذ يقول: «حين قررت الالتحاق بمنتدى الينابيع الهجرية لم يكن هناك أي داع لأنقر رابطا تقنيا وأقوم فيه بتعبئة بياناتي، من أجل إنشاء حساب خاص بي أتلقى من خلاله كلمة مرور يجب علي أن أحفظها .... لكن ذلك لا يعني مجانية الالتحاق بالمنتدى ولا ابتذال العضوية، وإنما الرابط هو الشعر، والبيانات الشخصية هي القصائد وكلمة المرور هي الإبداع». [ص428] ويقول الشاعر محمد عبدالله العلي: «ونرى للأستاذ ناجي صولات وجولات لاحتضان الشعراء المغمورين والشعراء الذين لا يريدون أن يُظهروا نتاجهم للملأ، يدعو كل من كان لديه قلق الشعر واختلاج الكلمة وتسابق الحروف في صدره لحضور المنتدى، ليتعرف الآخرون على إنتاجه وسبك قوافيه». [ص510] ويتفق الشاعران أحمد البقشي والسيد عبدالمجيد الموسوي على أن من أهم أسباب نجاح المنتدى التضحيات التي قدمها مؤسسه، ومن ذلك تفريغ نفسه للمنتدى وتخليه عن كل الشواغل التي تصرفه عنه، ومن ذلك رفضه الترقيات التي يترتب عليها انتقال عمله من الأحساء. ويقترح السيد محمد الحداد في نهاية شهادته على رجال الأحساء أن يكرموا المنتدى وصاحبه بحفل يليق بهما، وتأسيس مقر دائم يليق بالمنتدى، وتقديم دراسات أكاديمية عن دور الأستاذ ناجي ومنتدى الينابيع حول أثر المنتدى على الحالة الثقافية والأدبية في الأحساء وخارجها. [ص569]
مشاركة :