ما كان للاستياء الاجتماعي الكامن ان ينفلت من رباطه رغم مخاطر الوباء والعقوبات إلا حين وضع الأردنيون أيديهم على أصل المشكلة واستعادوا مطالب الاصلاح والمشاركة السياسية، فلم يعودوا يكترثون لتشكيل حكومة أو تغيير وزراء. الحكومة التي تمسك الآن بأعناق الناس وأرزاقهم بكل ما أوتيت من "أوامر دفاع"، أخفقت وارتبكت في إدارة الوباء. وعدّلت وبدّلت من الوزراء للاسترضاء وأحيانا الاستعراض، كما لم تفعل أي حكومة من قبل. البلد يعيش حالة مركبة من الإحباط العام إزاء التفشي الوبائي الذي وصل إلى مرتفعات قياسية والتداعيات الاقتصادية الثقيلة على المستوى الكلي وعلى مستوى المالية العامة ذات العجز الكبير المزمن والمديونية الفائقة، الى جانب الأفراد الذي خسروا دخولهم او تراجعت، او ازدادت عليهم الأعباء بسبب سياسات الحظر والإغلاق. هذه الكآبة ظلت تستمد قوتها وانتشارها من الارتباك الحكومي المستمر في التعامل مع الوباء والتلكؤ في توفير اللقاح وما أفضى اليه كل هذا من تغييرات وزارية متلاحقة وعجيبة. عادت الاحتجاجات أخيرا الى الشارع. وبعد سلسلة إقالات واستقالات وتعديلات وزارية، أعفى العاهل الاردني الملك عبدالله الثاني وزير الصحة من منصبه مع وفاة تسعة من مرضى كورونا بسبب نقص الأوكسجين. وتابع الملك بنفسه ملابسات الحادثة في مستشفى السلط الحكومي وطلب التنحي من اي مسؤول غير قادر على أداء عمله. هذا المشهد يعيد الى الاذهان آخر مظاهرات كبيرة شهدتها المملكة قبل نحو ثلاث سنوات حين أقال الملك حكومة هاني الملقي وكان ذلك كفيلا الى حد بعيد بتهدئة الحركة الاحتجاجية وعودة الناس الى بيوتهم. وصرح الملك عبدالله الثاني آنذاك إنه "اضطر" أن يقوم شخصيا بعمل الحكومة. كما طلب يومها تنحية اي مسؤول لا يستطيع ممارسة مهامه بكفاءة. الآن لا ضمانات بأن تجدي نفس مسكنات 2018 في تهدئة الغضب الشعبي حتى لو أقيلت الحكومة، أي حكومة. وليس من المجدي ايضا التعويل في كل مرة على ما يسميه الاعلام الرسمي "الانسجام بين الشعب والقائد"، فإذا غضب الشعب غضب الملك وأقال الحكومة أو أعفى وزراء من مناصبهم. وهو الذي كتب قبل سنوات في سلسلة "أوراق نقاشية" عن المشاركة السياسية "بالتدريج" وصولا الى تشكيل الحكومات المنتخبة. لكن الاردن لم يقطع خطوة حقيقية واحدة باتجاه الإصلاح السياسي المنشود ولا تزال البرلمانات قاصرة عن أداء دورها خصوصا في الرقابة على الحكومة، والأحزاب غائبة او مغيبة، والقوانين الناظمة للحياة السياسية والحريات العامة مغلفة بوعود التغيير الايجابي ومركونة على أبعد رف. من سوء حظ حكومة بشر الخصاونة ان هذا المشهد تكثف بشدة في عهدها القصير حتى الان منذ تشكيلها في تشرين الاول ثم استقالة وزير الداخلية في تشرين الثاني. وبعد أشهر أقيل وزيرا الداخلية والعدل، وذلك قبل اسبوع من تعديل حكومي شمل عشرة وزراء، منهم وزير استقال بعد ساعات من أداء اليمين القانونية أمام الملك الذي اقال أخيرا وزير الصحة بسبب حادثة مستشفى السلط. وباستثناء رئيس الحكومة، فإن أعضاء الفريق الوزاري الذي تشكل قبل خمسة أشهر تغيروا الآن بصفة شبه كلية، كما لو أن حكومة تشكلت من جديد ولم تتعدل. وطبعا في المحصلة النهائية، لا يوجد فرق. حادثة مستشفى السلط، وإن كشفت ملابساتها عن المدى الذي وصل إليه الإهمال أو التسيب في الإدارة المتوسطة داخل الوزارة المسؤولة مباشرة عن مكافحة كوفيد-19، فإنها تراكمت على إخفاقات الحكومة في المستوى القيادي المتقدم، خصوصا مع كثرة تغيير الوزراء الأساسيين القائمين على جهود احتواء الوباء. نالت الحادثة المميتة من ثقة الناس بالحكومات عموما وذكّرت بسلسلة من الارتجالات والقرارات الحكومية غير المفهومة أو غير المبررة او المتناقضة لاحتواء الوباء. لماذا لا تزال البلد تدار بقانون يسري زمن الحروب ويمنح الحكومة صلاحيات استثنائية لم تستثمرها في صناعة فرق على صعيد مكافحة الوباء، لكنها استخدمتها بوضوح في التضييق على الحريات واعتقال الناشطين ومنع التظاهر تحت طائلة الحبس والغرامة. لماذا أجريت الانتخابات النيابية من أساسها في مرحلة حرجة من تفشي الوباء رغم ان الحكومة ظلت تهدد وتتوعد بالعقوبات أي تجمع صغير من الاشخاص؟ وكانت النتيجة مشاركة أقل من ثلث الناخبين ونسخة جديدة عن البرلمانات التقليدية السابقة التي تبدو معزولة تحت القبة ومثار انتقادات احيانا وسخرية أحيانا كثيرة في وسائل الاعلام وعلى مواقع التواصل. لا إضافة يقدمها البرلمان الى الحياة السياسية منذ سنوات طويلة، ولا يُنتظر منه هذا الدور في ظل البيئة التشريعية الحالية القائمة على قوانين قاصرة عن مواكبة اي إصلاح سياسي يفضي الى مشاركة حقيقية في صنع القرار. الحكومة تقوم وتتعثر أمام المد الوبائي وتبدو مثل البرلمان، منعزلة ايضا عن الناس الذين تسيطر على حياتهم اليومية بقرارات منع التجول والإغلاق والحظر. الناس شعروا بأن عليهم ان يفعلوا شيئا، فاندلعت الاحتجاجات. حركة الاحتجاج هذه المرة لا تطالب بتغيير الحكومة او الوزراء، بقدر ما تضغط باتجاه البدء بإصلاح سياسي، ومشاركة فعلية في الحكم تضع حدا لهذا العرف المستقر في المملكة والذي لم يمنح اي حكومة فرصة للاستقرار.
مشاركة :