يصف دارسو هيمنة الولايات المتحدة، بالتاريخية «الاستثنائية»، لأنها وحدها دون غيرها عن أي قوى مهيمنة في التاريخ جمعت عناصر القوة الشاملة: العسكرية، الاقتصادية، السياسية، الثقافية أو القوة الناعمة. ويقلّل البعض من شأن الأخيرة، بل يعتبرها البعض الآخر ليست قوة على الإطلاق. لكن استقراء الواقع والتاريخ يقول إن القوة الناعمة لأميركا كانت ولا تزال أهم عناصر قوتها المرسّخة لهيمنتها الدولية. فعناصر قوتها الناعمة مستمدة في معظمها من ثقافتها الشعبية كالأفلام والأغاني الأميركية، كذلك احتكارها لأهم الماركات الرائدة في التكنولوجيا، وعالم التواصل الاجتماعي مثل أبل ومايكروسوفت وفيسبوك وأكبر وأهم الجامعات في العالم. يضاف إلى ذلك اللغة الإنكليزية ونمط الحياة الأميركي من امتلاك كل أسرة لمنزل خاص وسيارة. والقيم الليبرالية الحاكمة لأميركا كاحترام حقوق الإنسان والمساواة في الفرص وفتح الباب للمهاجرين وغيرها من العناصر، التي لاتزال تُشكّل العمود الفقري لاستمرار الجاذبية لأميركا بين شعوب العالم. والمفارقة العجيبة جداً، التي أوجدتها القوة الناعمة الأميركية هي الكراهية الشديدة لأميركا، بسبب الكثير من سياستها التي تنطوي على قدر كبير من الغطرسة، خصوصاً بين شعوب المنطقة، وتتوازى مع تلك الكراهية، الرغبة الجامحة لمعظم هؤلاء الكارهين في فرصة هجرة لأميركا. فالتأثير الأكبر للقوة الناعمة الأميركية يكون على النخب الحاكمة سواء ديموقراطية أم سلطوية، المعجبة في معظمها بنمط الحياة الأميركي وجامعاتها ومعظم عناصر قوتها الناعمة، مما ينشئ تعاطفاً كبيراً لدى تلك النخب مع أميركا وسياستها. فسقوط الاتحاد السوفياتي كان نتاج انبهار النخبة الحاكمة في موسكو، بل شعوب الاتحاد بأكملها بنمط الحياة الأميركي الشديد الرفاهية إلى جانب الأفلام الأميركية وفناني الولايات المتحدة. وبالقياس على ذلك في الوقت الحاضر، سنجده في قادة حركات التمرّد والانفصال في أوروبا الشرقية ودول المحيط الحيوي لروسيا كجورجيا وأوكرانيا، ممن تعلّموا في الجامعات الأميركية. صعود الصين في النظام الدولي أمر لم يصبح مثار جدال ونقاش مطوّل، بل واقع ملموس للغاية، فالصين ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم وفى طريقها لتصبح الأولى في غضون عقد من الزمان، الصين أيضاً استطاعت تقليص فجوة القوة العسكرية والسياسية مع أميركا بدرجة كبيرة جداً. فالحضور الصيني في العالم أصبح متعاظماً للغاية عبر منتجاتها واستثماراتها. كما تعي الصين جيداً أهمية القوة الناعمة، لذلك نجدها تخصّص ملايين الدولارات سنوياً لتأسيس مراكز حول العالم لتعليم اللغة الصينية والتعريف بالثقافة الكونفوشيوسية، وكل ما يميّز الثقافة الصينية كفنون الألعاب القتالية، وتأسيس قنوات متلفزة للغرض نفسه. بالإضافة إلى المنح الطلابية للدراسة في الجامعات الصينية، والقروض والمنح السخية للدول الفقيرة. لكن رغم كل ما تبذله الصين من جهود لتعزيز قوتها الناعمة، إلّا أنها لم تنشئ جاذبية قوية للصين ولا لثقافتها حتى لو بدا عكس ذلك. فالحضور العالمي للصين كما يصفه المراقبون هو اقتصادي محض. فاللغة الصينية غير مستساغة لدى الكثيرين، فضلاً عن صعوبتها البالغة، كما أن أفلامها ونمط فنونها لم يحظ بالقبول الواسع. فضلاً عن أن نمط الحكم الصيني القائم على احتكار حزب واحد للسلطة، شوّه كثيراً من سمعة وجاذبية الصين. الهيمنة الأميركية في تراجع ملحوظ على مستويات عدة، خصوصاً الاقتصادي، إلّا أن قوتها الناعمة لاتزال طاغية في العالم كله وهذا الأمر في حد ذاته قد يعمل على استدامة الهيمنة الأميركية لفترة أطول، فمن المفارقات أيضاً أن أغلب الصينيين يراودهم حلم الهجرة إلى أميركا. مختصر القول، إن القوة الناعمة الصينية غير قادرة حقاً على منافسة القوة الناعمة الأميركية، وهذا بدوره يجعل الهيمنة الصينية المتوقّعة على النظام الدولي هيمنة غير قوية بالقدر الكافي، أو لن تصمد طويلاً بسبب افتقادها لمعادلة القوة الشاملة للهيمنة.
مشاركة :