الشيخ محمد بن جابر محمد الحكمي الفيفي

  • 3/30/2021
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

هناك هامات من الرجال لا تقف امامها المعوقات، ولا تحد من هممها التحديات، فهم من يطوعون ما حولهم من الصعوبات، لتسير بهم كيف ما ارادوا، لا يشتكون من ظروف الزمان والمكان، تجدهم اشخاصا مؤثرين في انفسهم، وفي ابنائهم وفي جماعتهم ومحيطهم، لا يعترفون بالمستحيل، ويجعلون الصعب يسيرا، والحزن سهلا، يملكون  قوة الارادة ومضاء العزيمة، ويتركون لهم بصمة ايجابية في وجودهم وفي مجتمعاتهم، وما تزال الاجيال تذكرهم من بعدهم.   امامنا رجل فريد بفكره وعزيمته وهمته، نشأ وعاش في بيئة بعيدة منعزلة عن المؤثرات الايجابية، فبيته في اطراف القفر، بيت منعزل بعيد عن كل مصادر الحياة الاجتماعية، ولكنه طوع ما حوله ولفت نظر الناس إلى اهميته، ومدى حاجتهم اليه، وجعله مرتكزا ومزارا ومقصدا لتلبية طلباتهم الضرورية، ومصالحهم الحياتية، حيث جعله مركزا حضاريا يشع بالحركة والنشاط والحيوية، بعد أن هيأه وبناه من الداخل بالمقومات الايجابية، وهيأ افراده بالعلم والقوة والبنى التحتية، ونورهم وعلمهم بجهوده الذاتية، فعندما لم يجد من يعينه على ذلك، حيث لا تتوفر حينها المؤسسات ولا المدارس العلمية، سعى إلى تعويض ذلك بجهده الشخصي والذاتي، ثم عمل على ايصال الخدمات المهمة والاساسية، وقام بشق طرق للسيارات، بجهوده الذاتية، وقدراته المحدودة، وبذل ماله وجهده ووقته، في سبيل تحقيق هذه الغاية، حتى اكتملت واثمرت ووصلت السيارة إلى محيط بيته، في عقبات صعبة وامكانيات شحيحة، ولكنها همم الرجال التي لا تلين ولا تتضعضع، ثم سعى بكل عزيمة إلى جلب وتوفير الخدمات الضرورية، والسلع المعيشية والانمائية، وفتح الدكاكين في اكثر من موقع محتاج، وجلب اليها السلع ومتطلبات الناس، وحتى الاقمشة والخياطين للرجال والنساء، وجلب من يعمل عليها، واوكل إلى بعض ابنائها تعلم كثيرا من هذه المهن الضرورية، فكان يملك النظرة المستقبلية المستشرفة، ولديه اهتمام متزايد بخدمة الاخرين وراحتهم، ضحى بكثير من جهده وماله ووقته من اجل راحة الاخرين وخدمتهم، وبادر بقدر امكانياته المتاحة حتى قربها اليهم.   وحتى طموحه في تعليم اولاده، الذي لم يكن ليتحقق، لافتقار المحيط القريب منه إلى المؤسسات التعليمية، ولكنه قام بنفسه إلى سد هذه الفجوة بقدراته المحدودة، حيث قام على تعليم اولاده من بنين وبنات بنفسه، وخصص لهم جزأ مستقطعا من وقته لأجل ذلك، فقد كان يقوم بتدريسهم والاهتمام بإزالة اميتهم، حيث علمهم مبادئ القراءة والكتابة، ولقنهم دراسة وحفظ القران الكريم، إلى أن اطمأن على حصيلتهم الجيدة النافعة، وبلغوا درجة عالية من الاتقان والاستيعاب، ثم دون تردد بعث الابناء الكبار منهم للدراسة في مدينة الرياض وغيرها، وحظهم على الالتحاق بالمدارس الرسمية فيها، وصبر على غربتهم وبعدهم عنه رغم حاجته الشديدة إليهم، ولكنها التضحية بما فيه الصالح والعائد الايجابي لهم، وهم كانوا على قدر المسؤولية فلم يخيبوا امله فيهم، بل جدوا واجتهدوا واهتموا حتى بلغوا الهمة والقمة فيما ندبهم اليه، ولم يعودوا إلا وهم يحملون اعلى الشهادات، بل نجد معظمهم اختصروا كثيرا من المراحل بزيادة جهدهم، ونافسوا من سبقهم وحققوا المراكز المتقدمة، إلى أن تسنموا اعلى المراتب والرتب، وخدموا وطنهم بكل جدية واخلاص، وادوا ما أوكل إليهم بكل اقتدار، وارتفعوا بأنفسهم ومجتمعهم إلى كل خير، مشاركين في بناء وطنهم وامتهم بالعلم النافع والاخلاص والولاء، واما التالين لهم من بعد التوسع في فتح المدارس حولهم، فلا تسال عن متابعته لهم، وحثهم ليصلوا بفضل الله إلى اعلى الرتب والمراتب والدرجات. كان متميز بالحيوية وقوة الولاء والعطاء، انسان اجتماعي يحب الناس ويسعى لنفعهم، ويبادر إلى كل ما ينفعهم ويقوي اللحمة والصلات الوطيدة بينهم، ويسارع إلى خدمتهم وجلب المصالح لهم، لأنه تربى ونشأ وتخلق بها، وورثها وتطبعت عليها نفسه والفتها، حتى اصبحت جبلة عاش عليها وعايشها، اكتسبها من والديه واسرته ومحيطه الملاصق، فأصبحت له طبعا وطبيعة ثابتة، عرفه الناس بها ولم يعرفوه على غيرها، ذو صفات عالية واخلاق راقية، عرفوه برجاحة العقل وصدق القول، وقوة الحجة وسلامة التوجه، لذا احبوه ووثقوا به تمام الثقة، حكمة وتقى وسداد رأي، فكانوا يرجعون إليه كثيرا للاستنارة بفكره، والاستفادة من سداد رأيه وخبرته، فكان المتصدر والمرجع والمستشار، وصاحب الكلمة الصائبة، والحكمة المنشودة، رحمه الله وغفر له وتجاوز عنه، وبارك في ذريته واصلحهم ونفع بهم. أنه الشيخ محمد بن جابر بن محمد بن يزيد آل مغوث الحكمي الفيفي رحمه الله وغفر له. والده الشيخ جابر بن محمد من آل سالم بن محمد آل مغوث ، كان ذا ثراء ومكانة، ويملك كثيرا من الابل والغنم والاراضي، واشتغل في التجارة المعروفة في زمنه، مع ما يتطلبه العمل فيها حينها من الجهد والاسفار، وكثرة التنقل بين الاسواق، وما في ذلك من المخاطر والمغامرات، ما ليس خاف في ذلك الزمن المتفلت، وكان على درجة لا باس بها من التعلم يقرأ ويكتب، لذلك أولى ولده محمد كثيرا من العناية في هذا المجال، ومنحه الرعاية التامة والتربية القوية، وزاد اهتمامه وتركيزه لكونه وحيده، حيث لم يعش له غيره من الولد، رحمه الله وغفر له وتجاوز عنه. ووالدته الفاضلة عافية بنت مسعود سالم آل ساهر الحكمي ، فكلا البيتين آل ساهر وآل مغوث، هما بيتا الرئاسة والشيخة في قبيلة آل بالحكم، توارثوها جيلا بعد جيل، حتى أن القبيلة كانت رئاستها منقسمة بين هاتين الاسرتين، إلى أن توحدت على شيخ واحد في بداية العهد السعودي الزاهر.  كانت اما رؤوما وأما فاضلة اولت وليدها الوحيد كثيرا من العناية والاهتمام، وحسن الرعاية والتربية، رحمها الله وغفر لها. ولد لهذين الفاضلين في بيتهما في قرية الحلفة في اسفل جبل فيفاء الغربي حوالي عام 1353هـ، وكان كما اشرنا وحيدهما، فأولياه جل اهتمامهما، واحسنا تربيته والعناية به، فنشاء على كثير من الفضائل والاخلاق الحسنة. تعليمه: كانت فرص التعليم نادرة على عموم الناس في تلك الفترة، سواء في فيفاء أو غيرها لندرة المعلمين ومدارسه، وبالذات من كان بعيدا عن التجمعات والحواضر، التي قد يوجد في بعضها من  يقوم على تعليم الاطفال القران الكريم والقراءة والكتابة البسيطة، عند بيوتهم أو في بعض الجوامع القائمة، ولما كان بيتهم في منطقة معزولة وبعيدة، ولا يوجد وسائل نقل، فقد عان كثيرا لحرص والده على تعليمه، فكان اقرب معلامة لهم، تقع في جامع البديعة في بقعة الشلة، ورغم بعدها وصعوبة الوصول اليها، إلا أنه التحق بهذه المعلامة القائمة، عند المعلم جبران بن اسعد المدري رحمه الله، حيث واضب على حضوره لها، وانخرط في التعلم المتاح فيها، مع قلة وسائل التعليم المتوفرة حينها، فلا يوجد الا مصحف واحد يملكه المعلم، تتناقله ايدي الطلاب ليكتتب كل واحد منهم الجزء الذي يدرسه في ذلك اليوم، ينسخه من المصحف على لوحه الذي يحمله، ويكون اللوح مصنوعا من الخشب، مجهز ومصبوغ بقتام السرج ، ليتحول بذلك إلى اللون الاسود، الذي يسهل الخط عليه بالمداد الابيض المصنوع من النورة، التي تحضر بعجنها بالماء مع بعض القطن، واما القلم أو الريشة فتصنع من اعواد قصب الرّيع أو المضّ المبرية، فتغمس الريشة في المداد من (النورة)، ثم ينقلها بسرعة ليخط بها على اللوح، قبل أن يجف مدادها او ينتثر على الارض، فيخط بها بصعوبة حرفا حرفا، ليخرج في النهاية كتابة بيضاء على هذا اللوح، يقرأ من خلالها درسه ذلك اليوم ، فاذا ما اتقنه وحفظه مسحه واكتتب درسا آخر، وهكذا يتكرر الامر مع كل الطلاب في كل يوم، فيتعلم الطالب الكتابة والقراءة في وقت واحد، وهكذا واصل دراسته في هذه المدرسة الوحيدة، وتحمل كل المشاق والظروف المحيطة، سواء من الطريق البعيد الشاق، وقلة امكانيات التعلم، وندرة الوسائل المعينة، واستمر بكل اصرار حتى ختم كامل القرآن الكريم، واتقن شيئا من القراءة والكتابة، وهذا هو القدر المتوفر من التعليم في زمنه ومحيطه.   انغمس بعدها في الحياة الخاصة والعامة ، وتظافرت كل العوامل من حوله، وفي بيئته ومحيطه، لتصنع منه رجلا متكامل النجاح والتأثير، رجل ايجابي في كل الجوانب وفي كل المجالات، عاش كامل طفولته وشبابه في هذا المحيط الحيوي والايجابي، محيط دائب الحركة والنشاط، محيط تموج في اكنافه الحيوية والحركة الدائبة، بيئة نشطة مترعة بالقوة والفعالية الايجابية، يحوطه فيها ابوان واعيان مقبلان على الحياة، طوعاها بكل الوسائل الممكنة والمتاحة، حتى تملكا كل مقوماتها واسبابها، يملكان كثيرا من الاموال والاراضي الزراعية، ويربيان الانعام من الغنم والبقر والجمال، والمكان يعج بالحيوية وكثير من الناس، ما بين عمال معاونين في الاهتمام بكل هذه الجوانب، من زرع ورعي وخلافه، او ممن يخدمون في كل المجالات الاخرى، حياة متدفقة بالنشاط والعطاء والحيوية، وتدير كل هذه الامور عقليات قيادية واعية، ولا يخلو البيت ومحيطه من الضيوف والغرباء، واهل الحاجة، كل يجد فيه العناية والاهتمام والرعاية، وحسن الضيافة، فموقع البيت وتميزه، وشهرة اهله وكرمهم وحسن تعاملهم، كلها عوامل جذب تستقطب الكثير والكثير من الناس. تربى ونشأ في هذه البيئة الصالحة، واختلط بكثير من نوعيات البشر ومن كل الفئات، كان ذكيا لماحا يميز بين الصحيح والخطأ، ويتعلم بسرعة من كل محكات الحياة من حوله، نشأ على الدين والتقوى، وانغرس في قلبه التوحيد والبعد عن كل ما يناقضه، فالصلاة تقام بانتظام في اوقاتها في المسجد الملاصق للبيت، ويفد إلى بيتهم كثير من علية القوم، وكثير من الغرباء من كل الطبقات، ويستقبلونهم كضيوف اعزاء، وتدور في مجالسهم كثيرا من الحوارات، وتحل فيها كثيرا من الاشكالات، وكلها دروس صقلت من فكره ونظرته الصحيحة للحياة، فتربى على محاسن الاخلاق واجملها، وتربى على التوحيد والتمسك بفرائض الدين، وكل هذه الاساسيات تكونت في كيانه، ثم كونت له شخصية ايجابية متميزة، فلما تحولت امور البيت إلى ادارته بعد وفاة والده رحمه الله، كان على قدر المسؤولية والوعي والادراك، منفتح ومثقف وواسع الاطلاع، يسعى إلى متابعة كل جديد، وتكونت لديه خلفية ثقافية دينية واجتماعية، لإجادته القراءة والكتابة وسعيه الدائب إلى الاطلاع والتعلم وحب المعرفة، وكان يتابع بانتظام الاخبار والبرامج الاذاعية ويستوعبها، فهو من اوائل من اقتنى الراديو في (بقعة مدر)حيث يسكن، وطور ذاته ومعلوماته في كل مجال، حتى أنه اصبح مرجعا وقدوة في معرفة الاسلاف والاعراف، والالمام بالعادات والتقاليد، فيما يخص القبائل داخل فيفاء وخارجها، وكان مشاركا فاعلا في حل الخلافات واصلاح ذات البين، ولا يستغنى عنه في المشاركة في معظم القضايا والخصومات، وبالذات التي يكون احد اطرافها من ابناء فيفاء، سواء في السعودية او في القبائل المجاورة في اليمن، وكان يترأس غالبا هذه اللجان، ومن ذلك كمثال عندما احرقت بعض السيارات في القبيلة، فذهبوا في وفد الى (قبائل منبه اليمنية)، وتوصلوا إلى حل القضية، وكذلك قضايا السرقات او الخصومات، وبعضها قد تصل إلى الاعتداء على الدماء، فكانت له ادواره الاصلاحية المؤثرة، ويثق فيه الناس كثيرا، وفي أرائه واحكامه المنصفة.    ولسعة معرفته واتساع افقه وخبراته، استعان به معالي الفريق مريع بن حسن الشهراني، رئيس الهيئة العامة للمساحة في المملكة، اثناء ترأسه اللجنة السعودية اليمنية، لتجديد العلامات الحدودية، فكان يصحبه في معظم الجهات الملاصقة لفيفاء وما حولها، وقد استضاف معالي الفريق في بيته في هذه الاثناء أكثر من مرة. مشاركاته الايجابية:    كان رجل عصامي اجتهد واخلص، واحسن التصرف في كل اموره ومعاملاته، بعد أن بنى قدراته الذاتية، وصقلها بالتقوى والاطلاع والاجتهاد، وبث في محيطه كل معانى الايجابية والقدوة الصالحة، وسعى جاهدا في الاعمال الخدمية النافعة لمجتمعه، بعد أن هيأ نفسه وهيأ اولاده من بنين وبنات، ليكونوا لبنات صالحة في مجتمعاتهم، وتحقق له بفضل الله كثير من ذلك، وبنى خطته وتدرج في تفعيلها، وسعى جاهدا إلى اقامتها على قواعد ثابتة، ومبادئ راسخة من التقوى والصلاح والدين، والترقي في طلب العلم وتحصيله، ونفع الناس وجلب الخير لهم، ونلخص اهم جوانبها ومعالمها في التالي:  أولاً : اتخذ قراره بأن ينال ابنائه حظا وافرا من التعليم ، ولعدم توفر ما يعينه على ذلك من المؤسسات المتخصصة، فقد قرر أن يقوم بذلك بنفسه، حسب قدراته الذاتية المحدودة، فجمع اولاده بنين وبنات، والزمهم من خلال تحديد وقت معلوم ومحدد، بأن يحضر كل مجموعة متجانسة منهم في وقت مخصص، حيث هيء لهم كل ما يلزم من وسائل التعليم، من الالواح والاقلام ومحابر النورة، وبدأ بكل دأب في تعليمهم من تحت الصفر، انطلاقا من اتقان التهجي ومعرفة نطق الحروف والتعرف على حركاتها، فيما يعرف بالأبواب (الف، با، تا، ثا … والف لا شيء عليه با نقطة من اسفل تا ثنتين من اعلى… وعلامات الرفع والنصب والخفض والتنوين والاسكان والتشديد)، وبعد أن اتقنوها كما ينبغي، وقد اخذت بهم زمنا طويلا ومتعبا، تدرج بهم بعدها في تعلم وحفظ سور القران الكريم، صعودا من قصار السور، وكلما تقدم احدهم وتميز، استعان به في تعليم الاخرين، وهكذا تجاوز البدايات الصعبة، وتحسن الاداء والنتائج، في عمل مظن ومرهق، وبمعدل لا يقل عن حصتين في اليوم، حتى تنامت بينهم المعرفة والابداع والتفوق، واتقن غالبهم القراءة والكتابة بطلاقة، وحفظوا اجزاء كبيرة من القرآن الكريم، بل استطاع معظمهم بناء على هذا التأسيس من تعليم نفسه، وقراءة القرآن كاملا فيما بعد لوحده، وكان حريص بشدة على بث العلم وانتشاره، وكان يدفع كل من يرغب من ابنائه إلى الاغتراب في طلب العلم، بل ويشجع كل من كان في محيطه من غير ابنائه لأجل ذلك، فله فضل كبير على كثير منهم في طلب العلم، وفي الانطلاق لأجل تحصيله في هجر العلم القائمة، في بلدة صامطة وفي الرياض وغيرها، حيث استفاد كثير منهم في ذلك، وبلغوا درجات عالية في التعليم.  ثانياً:  كان قوي الايمان والتقوى، وكان اشد ما يكرهه هو التهاون في العبادات، أو مقارفة المعاصي أو عدم التحرز من الشركيات، أو ما يفضي اليه بكل وسيلة كانت، وللأسف كان منتشر في تلك الفترة وما سبقها كثير من المخالفات العقدية، بسبب ما فشا في المجتمعات مع انتشار الجهل، وما توارثته الاجيال على مر العصور، من عادات خاطئة ومعتقدات ضالة، حتى تشكلت في خلد معظمهم، وألفوها وتحكمت فيهم، وهي لا شك تراكمات هائلة، من الجهل وشدة الظلمة والظلال، لفترات طويلة واجيال عديدة، مع قلة العلم والمتعلمين، والبعد عن الدين الصحيح، وكلها امور كانت سائدة لقرون متعاقبة، قبل هذا العهد السعودي الزاهر.   فكان يكره ويحارب بشدة، ما يراه يخالف الدين والمعتقد، ومنها ما كان يعلقه كثير من الناس من تمائم واحراز، كانت عبارة عن (طلاسم وشخبطات تكتب في اوراق، ويخاط عليها رقع من الجلد المدبوغ، لتعلق بمرفق او رقبة الطفل، وحتى لبعض كبار السن، وللبهائم التي يقتنونها في بيوتهم كالبقر)، معتقدين انها تصرف عن لابسيها الامراض، او تقيهم من مس الجن او من العين وخلافه.    وكذلك ما كان يعرفه الناس بـ(الغمازة)، وهي مساج خاص من اناس خاصين، يعتقدون أنه ينفع لما يسمى بمرض (الزار)، الذي يؤمنون أنه نوع من الجن يتلبس بالرجل او المرأة، وأنه لا يعالج فيه إلا اشخاص معينين، لأنهم ذوي قدرات توارثوها كابرا عن كابر، ويعتقدون أن هولاء الاشخاص بمقدورهم اصابة من يرغبون بهذا المرض، فيقولون (كسر فيه) اي اصابه بهذا المرض (الزار)، ويعتقدون أنه لن يشفيه غير الذي اصابه، أو شخص آخر يدانيه في هذه القدرات، وتتوارث هذه الخاصية اسر مشهورة، وانتشر مع مرور الوقت حتى اصبح معتقدا ثابتا لا يشكون فيه، والسبب هو فشو الجهل بينهم، وانعدام العلم، وقلة الوعي، وضعف الايمان، حتى ساد الشرك والضلال بينهم وتحكم فيهم، اضافة إلى شدة احتياج الناس إلى الاستشفاء، وطلب العلاج، ولا توجد لديهم البدائل من مشافي وخلافها، فالناس يلجؤون مضطرين الى هذه الامور الشركية، لعدم وجود غيرها، واعتقادا منهم انها هي الوسيلة الوحيدة الناجعة، وإذا صادف وشفي منها بعضهم، زادت قناعاتهم فيها اكثر واكثر، حتى أنهم يرونها أمرا طبيعيا لا محضورة فيه.    لذلك كان لوعيه ورجاحة عقله، مع كثرة اطلاعه وتعلمه، الدور الاكبر في النفرة من كل هذا الامور، فكان لا يقبلها بتاتا في محيطه، ايمانا منه بحرمتها، وبانها عديمة الجدوى في النفع، اضافة إلى ما تفضي إليه من الاعتقاد في غير الله سبحانه وتعالى، فكان يحاربها بضراوة في مجتمعه، ويناصح كل من يتعامل معها بالامتناع عنها، ويوضح لهم شدة ضررها على الاعتقاد وعلى الدين، وانها نوع من انواع الشرك بغير الله، ولا يسمح أبدا لأحد من اهله واقربائه في التعامل بها، بل يقول لهم إن الموت اهون عليه من هذه البدع والخرافات، اضافة إلى محاربته لكثير من الامور المنكرة المماثلة، ومن ذلك البشعة والسحر والشعوذة، لاعتقاده الجازم بفداحة ضررها، وتقويضها للدين وللمعتقد والايمان الخالص.   وفي المقابل كان يهتم كثيرا بأداء العبادات والفرائض، ويحافظ على الصلوات المفروضة، ويحرص على ادائها جماعة في مسجده المجاور لبيته، بل لا يتهاون في هذا الامر نهائيا، ولا يسمح لاحد من ابنائه أو غيرهم من المتواجدين في بيته من التخلف عنها، وكان يحرص على إيقاظ الجميع عند صلاة الفجر، ويطالبهم بالحضور معه جماعة في المسجد، ويعاقب كل من يتأخر عن ادائها، ولا يقبل له عذرا إن لم يكن عذرا ظاهرا، سواء من اولاده او من العاملين معه، حتى أنه لما كبر بعض اولاده وتوظفوا خارج فيفاء، كانوا عندما يحضرون في الاجازات، يسري عليهم تطبيق هذا النظام دون استثناء، وقد ينام بعضهم في غرف مستقلة في البيت، سواء في بيت المركابة، أو في بيت الضحي في بقعة (مدر)، فإذا وجد أن احدهم يتأخرا عن صلاة الفجر، ولم يره يؤديها معه في المسجد، او في المصلى المخصص لذلك في البيت، عاقبه بعقاب رمزي، في حرمانه من دعوته لتناول طعام الفطور معه، ويعتبر ذلك تنبيها إن لم يكن عقابا لهذا المتخلف، حتى اشتهر الامر وعلم بينهم جميعا، في أنه من لم يصلي الفجر في وقته، من غير عذر أو مرض أو نحوه، فلن يسمح له بتناول الفطور معه، لا فرق في ذلك لديه بين كبير رتبة او شهادة علمية او منصب وظيفي، رحمه الله وغفر له.  ثالثاً :   كان رجل عدل ثقة مع نفسه ومع كل الناس، عرف عنه محاربة الظلم واهله، لذا كان يلجئ اليه كثير من الناس ليستعينوا به لرفع ما يقع بهم من ظلم، وفي ايصال الحق اليهم، وقد امتلك خبرة كبيرة في حل القضايا، وفي انهاء كثير من الاشكالات المستعصية، ولديه خبرة واسعة في تقسيم التركات، وفي تحديد الحدود في الممتلكات، وفي فض الخصومات وحل المنازعات، اكتسبها بكثرة الممارسة والاطلاع، وكم قام بالترافع بالوكالة في  كثير من القضايا، لمن يلجؤون اليه من الضعفاء والنساء والايتام والارامل، سواء من داخل قبيلته او من غيرها، فامتلك كثيرا من الخبرة والدراية ومعرفة الاحكام الشرعية، ونال ثقة الناس وارتياحهم اليه، واكتسب خبرة حسن تقدير المستحقات في النفقات والجنايات وامثالها، وكان يسعى دوما بالصلح بين المتخاصمين، حتى عرف بذلك واشتهر به، ونال قناعة كثير من الناس، فلا يخرجون في النادر عن احكامه الاصلاحية، بل إن زوجات ابناءه كن يشتكين إليه في حالة تخاصم احداهن مع زوجها، ولا تذهب لغيره رغم وجود آباءهن أو اخوانهن، لمعرفتهن الاكيدة انه سينصفهن ولن يظلمهن، حتى أن بعض ابنائه يتمنى ان تشتكي زوجته إلى غيره مهما كان، لأنه اذا حكم أو اصلح فلابد من تنفيذ قوله دون اعتراض.  رابعاً : عاش بين الناس واهتم بمصالحهم، وشارك في تخفيف آلامهم وتسهيل امورهم، وشارك بكل ايجابية في الصالح العام لمجتمعه، وقد اشتغل في اول حياته في الاعمال الخاصة بوالديه، رعى لهم الغنم والابل، واشتغل في الزراعة واصلاح اموالهم وتنميتها، فلما كبر واستقل بحياته الخاصة، واصبحت الامور موكولة اليه بعد وفاة والده (رحمه الله)، واصل عمله في ما سار عليه من قبل، وطوره وابتكر كثيرا من الوسائل المعينة، ولما رزق بعدد من الاولاد المباركين، الذين اعانوه في القيام بكثير من اعماله وفي تطويرها، ومع ازدهار الحياة، وتحسن الاوضاع المعيشية والامكانيات، سعى جاهدا إلى مواكبة كل جديد، وتحسين قدراته الذاتية بما يناسب الحال، وفي المشاركات الجادة في خدمة مجتمعه بما يقدر عليه، والعمل في كلما يتناسب مع المستجدات من حوله، فاشتغل في حوالي عام 1391هـ في الجانب التجاري، لإحساسه بأنه من أهم المجالات لرقي المجتمعات وخدمتها، لأنه عمل ايجابي يساعد على توفير متطلبات الناس الضرورية، وما يحتاجون إليه من المواد الغذائية والخدمية، ومن مواد البناء الحديثة، وكانت انطلاقته الاولى من دكان صغير عند منزله في الضحي، جلب إليه البضائع من اسواق المنطقة ومن مدينة جدة، فكان يشحنها بالسيارات الكبيرة (المرسيدس) الى سوق عيبان، الذي هو اخر نقطة كانت تصلها السيارات حينها، ومن هناك ينقلها بواسطة الجمال والدواب الى دكانه، وكان يتولى البيع فيه بنفسه، أو يستعين ببعض ابناءه الكبار، ومع الوقت طور الموقع بما يحتاج إليه الناس، فاحضر مكائن الخياطة ووفر الاقمشة المطلوبة، وبالأخص الملابس النسائية الأكثر رواجا، من (الكرت والصدر) اللباس السائد في ذلك الزمن، ويقوم بنفسه على اعدادها في اوقات فراغه، او يقوم بها بعض من زوجاته وابنائه.   وفي عام 1392هـ سعى جادا إلى شق طريق السيارة، ليقرّب المسافة اكثر إلى جهتهم، وكانت له الريادة في هذا الجانب المهم، وفي هذه النقلة العظيمة، فلم تكن السيارة تصل حينها كما اشرنا إلا إلى سوق عيبان، ثم تجاوزته شمالا إلى سوق الداير، ولمعرفته بأهمية الطرق في تسهيل الامور وخدمة الناس ابتدر إلى هذه المهمة، فأبتدأ في فتح هذا الطريق الحيوي، واختار تفريعه من الطريق الموصل لعيبان من جهة (ام الدراهم)، التي هي اقرب نقطة إلى جهتهم تصل إليها السيارة، وقد تجاوب معه الشيخ يحيى عجاجة الغزواني (رحمه الله)، فسمح له بأن تمر الطريق من بعض اراضيه في هذه الجهة، واستأجر (دركترا صغيرا) على حسابه الخاص، وكانت اصعب المراحل فيه هي بداية الطريق على ضفة وادي جورا، ومن بعدها تيسرت الامور نسبيا لسهولة الاراضي وانبساطها، وتواصل شق هذه الطريق الى أن بلغت (الردحة وامجعبي)، ثم استمرت جنوبا الى (امتوامتين)، وكانت اكبر المعوقات تكمن في اقناع الناس الذين تمر الطريق بأراضيهم الزراعية، وتوقفت هذه الطريق في التوامتين لما يقارب العام.     وفي العطلة الدراسية في ذلك العام، حضر ولده احمد الذي كان يدرس المرحلة الثانوية في ابها، وكان يتقن قيادة السيارة، لذلك بادر والده إلى شراء سيارة تايوتا (شاص ابيض موديل ١٩٧٣)، ليقوم بسياقتها لنقل حاجيات ومتطلبات الدكان من البضائع، اضافة إلى أنه كان يقوم  بنقل الركاب في ايام الاربعاء والخميس إلى سوقي الداير وعيبان.     واثناء توقف شق الطريق في التوامتين، اتفق اهالي منطقة الهيجة على ايصال الطريق إلى جهتهم، وسلكوا بها طريقا يمر من وادي ضمد، وعندها تحمس اهالي هذه الجهة من قبيلتي (الحكمي والمدري) لمواصلة شق الطريق متعاونين فيما بينهم، حتى أوصلوها إلى الحوبة، الواقعة بالقرب من منزل الشيخ ناصر بن فرحان المدري في(الكوابسة)، ومن هذه النقطة واصل هو بجهوده الفردية على شقها، حتى أنه استطاع ايصالها إلى بيته المركابة، وفيها توقفت الى حوالي عام ١٣٩٥هـ، ليقوم بعدّة مفاوضات وجهود كبيرة، حتى أقتنع الآخرون ممن ستمر بأراضيهم، ليتواصل شقها صعودا إلى أن وصلت في أواخر عام 1396هـ الى جهة بردان. وبالطبع مع وصول السيارات، توسع في جلب كثير من السلع والبضائع، من المواد الغذائية ومن مواد البناء والكماليات، ومن الوقود ومن الاقمشة والملابس الجاهزة، حيث تملك مجموعة من السيارات يجلب عليها هذه المتطلبات، سواء من حواضر المنطقة، (جيزان وصبيا وابي عريش وعيبان)، ومن خارج المنطقة من جدة والخميس وغيرها، فانتعش محيط بيته بالحركة، بما يقدمه من خدمات جليلة لمجتمعه، وقد وفر عمالا ولديه مجموعة من الحمير، لإيصال  متطلبات الناس إلى بيوتهم، مما جعلها خدمة كبيرة اراحت الناس كثيرا، وكان يدير اعماله بنفسه، ويستعين ببعض أبنائه عند فراغهم، دون ان يشغلهم عن دراستهم الاهم لديه، مع كثير من العمال النشيطين، وتملك عددا من المستودعات في السهول حيث تصل السيارات الكبيرة، فكان له مستودع في قرية الحوبة بدل الذي كان في عيبان، وتوسع في فتح الدكاكين في الحلفة وفي الضحي، وجلب كل ما يحتاج إليه الناس من المتطلبات الضرورية، واستمر على هذا الحال إلى أن وصلت طرق السيارات الى مختلف نواحي الجبل، وعندها تركز البيع والشراء على الطرق العامة الرئيسية، وتضائل احتياج الناس إلى معظم هذه الخدمات الفرعية، ثم مع تقدمه في السن، وتفرق  معظم ابنائه في مناطق المملكة، كان سبب في تقلص وانقطاع ذلك الزخم والنشاط التجاري، وعدم الحاجة إليه. وفاته: تفرغ في أواخر حياته لعبادته ولأموره الخاصة، حتى توفي في مدينة خميس مشيط بتاريخ 4/3/1427هـ ودفن فيها، رحمه الله رحمة واسعة، وغفر له وتجاوز عنه، وبارك في اعماله ورفع من درجاته، وبارك في ذرياته من بعده. الحالة الاجتماعية: تزوج عددا كبيرا من النساء طوال حياته، حتى بلغ عدد من قد تزوج منهن ستا، كن على النحو التالي: 1.   الفاضلة جميلة بنت حسن شريف الحكمي. 2.   الفاضلة شوقة بنت يزيد مفرح المدري. 3.   الفاضلة غالية بنت سالم يزيد الحكمي. 4.   الفاضلة خيرة بنت علي يحيى الحكمي. 5.   الفاضلة سلامة بنت يزيد مسعود الحكمي. 6.   الفاضلة عائشة بنت جبران سليمان الحكمي.  رحم الله وغفر لمن توفيت منهن، وتجاوز عنهن، وحفظ بحفظه الباقين، وقد رزق منهن بالعديد من الاولاد من(بنين وبنات)، الاحياء منهم خمسة وعشرين ولدا، خمسة عشر ابناً، وعشر بنات، حفظهم الله وبارك فيهم، وفي ذرياتهم، وهم على النحو التالي من غير (ذكر الالقاب)، فالأبناء (يحي، وعلي، وحسين، وحسن، وسليمان، واحمد، وسلمان، وعبدالله، وموسى، وجابر، وناصر، وجبران، وعبدالرحمن، وخالد، وابراهيم)، والبنات (فاطمة، وعائشة، وسعيدة، وعافية، وخيرة، وسلامة، وشريفة، وصالحة، وفائزة، وكاذية) حفظهم الله جميعا ووفقهم.   ورحمه الله واعلى من درجاته ــ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.                            الرياض في 16/8/1442هـغرِّدشارك هذا الموضوع:انقر للمشاركة على فيسبوك (فتح في نافذة جديدة)انقر للمشاركة على WhatsApp (فتح في نافذة جديدة)اضغط للمشاركة على تويتر (فتح في نافذة جديدة)انقر للمشاركة على Telegram (فتح في نافذة جديدة)اضغط للطباعة (فتح في نافذة جديدة)

مشاركة :