خطط جديدة قائمة على شعارات حقوق الإنسان أطاحت ببعض الأنظمة العربية في يوم (15 يوليو 2016م) استجاب الشعب التركي لدعوة الرئيس رجب طيب أردوغان ونزل إلى الشارع لحماية الديمقراطية وانجازات تركيا المهمة في العقدين الماضيين، إلا أن تلك الانجازات تحطَّمت على صخرة الغرور والأيديولوجية الإخوانية التي سيطرت على فكر الرئيس التركي، ورمت به في أحضان الإخوان المظلمين وأفكارهم وطموحاتهم الخادعة، لينتهي به الأمر إلى معاداة أهم حلفائه في العالم العربي وهم: مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة؛ ليجني نهاية بطيئة لعظمة وقوة تركيا ومكانتها، وتدهورًا حادًا في العملة التركية وسقوطًا مدويًا في الاقتصاد التركي! إن كان تاريخ الانقلابات قد انتهى، فإن تاريخ الإخوان المسلمين وأحلامهم قد انتهى هو الآخر، وإن كانت الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط قد قامت على ردود فعل سريعة لأحداث عابرة تمر بها الأمم، فإن إدارة كالإدارة الأمريكية في البيت الأبيض لم تعي تمامًا دروس التاريخ في الشرق الأوسط، خاصة في السعودية التي هي محط أنظار الأمة الإسلامية ومحرِّك الاقتصاد العالمي الذي يعتمد على النفط وتقلبات أسعاره في الأسواق العالمية، وفي مصر التي هي حجر الزاوية في الأمن القومي العربي، والتي حكمها الإخوان لمدة عام واحد، إلا أن شعبها العظيم ذو التاريخ والحضارة العظيمة هَبَّ لإسقاط مخطط الشر وإسقاط الدول التي قدَّمت الدعم الإعلامي الكامل في فضائيتها وبرامجها السياسية الموجَّهة وكل ما لديها من خبرات وأموال طائلة للإخوان المسلمين. لذلك؛ فإن العبث بأمن الشعوب واستقرار الدول والتخطيط لإنشاء حدود ودول جديدة -كما جرى بعد اتفاق سان ريمو في إيطاليا (أغسطس 1920م) عندما تقاسمت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى النفوذ والدول فيما بينها في منطقة الشرق الأوسط- لم يعد ممكنًا أو مقبولًا، وأصبحت الولايات المتحدة أمام حقيقة عدم تمكّنها من تنفيذ مخططاتها ومؤامراتها كاملة في المنطقة عندما لجأت إلى خطط جديدة قائمة على شعارات حقوق الإنسان التي أطاحت فعلًا ببعض الأنظمة العربية، إلا أنها لم تنجح في بعض دول الشرق الأوسط التي وقفت صامدة أمام كل التيارات التي دفعت بها الولايات المتحدة لتنفيذ مؤامرات الشر إبّان الربيع العربي الذي أسقط العراق وسوريا ولبنان وغزة واليمن من أجل عيون إيران الفارسية، وليبيا وتونس من أجل عيون الإخوان المسلمين، وكلّه بهدف تشكيل شرق أوسط جديد تحكم إيران دوله الشرقية، ويحكم الإخوان دوله الغربية!! وهو ذات الدور الذي تقوم به إيران في المنطقة العربية، بدعمها مجموعة من الإرهابيين الموجَّهين سواء في البحرين أو السعودية أو الكويت أو لبنان لتحقيق أهدافها المُعلنة التي لم تُخلّف سوى الدمار والطائفية المقيتة وتشريد الشعوب في دول عربية كانت عواصمها منارات للعلم والمعرفة والثقافة كما هو الحال في العراق وسوريا ولبنان، فالمخطط الإيراني معروف، وهو يقوم على أساس إنشاء دولة موازية خفيّة تحت شعارات حماية حقوق الإنسان وحرية التعبير والمظلومية المدعومة من منظمات المجتمع المدني وبرلمانات الدول الأوروبية والولايات المتحدة بالتنسيق مع دولة فاشلة لا تعرف طريقًا للتعددية والديموقراطية وتسعى إلى استخدام أصحاب المذهب الشيعي في الدول الأخرى من أجل نشر مبادئ وأهداف ثورة الخميني وتمدّدها وتعزيز نفوذها في دول الخليج العربية بالعمل على التغرير بمواطنيها وزعزعة الجبهة الوطنية وشراء خدمات مواطني هذه الدول لخوض حروبها وصراعاتها نيابة عنها باستغلال العامل الديني والعزف على أوتار المظلومية وحقوق الإنسان. لقد انتصر الشعب التركي لنظامه الديموقراطي الذي صاغه أردوغان، وخرج ليحمي مكتسباته ومستقبل بلاده، بما يكشف -ودون شك- ما وصل إليه من وعي سياسي متميّز وإصرار على عدم عودة العسكر إلى الحكم الذي سيعيد تركيا إلى تاريخ النظام الدكتاتوري القديم ويركنها حقبًا طويلة على هامش التاريخ. لذلك؛ فإن الوقفة الوطنية للشعب التركي حول الشرعية والمؤسسات المدنية المنتخبة، تؤكِّد بأنه أصبح الرقم الصعب في المعادلة التركية الداخلية يجب أخذه في الاعتبار، وتكشف عن رؤية سياسية ناضجة وضعت النقاط على الحروف في الإصرار على الدفاع عن الديمقراطية واستكمال مسيرتها ومستقبلها، وهذا يتطلَّب من أردوغان وحكومته إعادة بلاده إلى الخط الصحيح الذي كانت عليه، وإنقاذها بعد أن وصلت تركيا إلى حافة الهاوية وتعرَّضت للفوضى وخطر الانقسام والدخول في حرب أهليه متوقعة، وإن كان أردوغان قد نجح واستطاع بفضل شعبه أن ينهي انقلاب العسكر المدعوم خارجيًا في فترة قصيرة جدًا، فإنه لابد من استيعاب أن من عوامل هذا النجاح هو الدور الذي اتخذته الجبهة الداخلية الوطنية التركية التي رفضت الانقلاب والمؤامرات. ولو فكر أردوغان مليًا قبل ان يعادي السعودية والامارات ومصر كنزه المهم المفقود الذي يعيده الى خارطة البقاء والاستمرار كدولة مقبوله في الشرق الاوسط ويترك عنه صغائر العلاقات والاحلام التوسعية، لوجد الحقيقة ماثلة أمامه، وهي أن هذه الدول كانت وستبقى سر مستقبل مسيرة تركيا ونجاحها في العقدين الماضيين لان عوامل نجاح الدول تقوم على قوة شعوبها وإيمانها بمبادئها وتاريخها ومكانتها بين الأمم وتأثيرها السياسي والاقتصادي، وهذا لن يجده في الشرق الأوسط إلا في دول مجلس التعاون ومصر مجتمعة، مهما حاولت الولايات المتحدة العبث بالتاريخ، ومهما حاول بعض رؤسائها البحث عن صغائر الأمور الفردية لبناء أسس جديدة للعلاقات معها؛ لأن علاقاتها مع دول المنطقة وخاصة السعودية لابد أن تظل قائمة على التاريخ وعلى المصالح المشتركة والأسس الراسخة للصداقة الطويلة والثقة والوضوح في الرؤية. إن طيّ صفحة التاريخ الأسود التي كتبها أردوغان في السنوات الماضية ووضعت (السعودية ومصر) في مصاف الدول الأعداء لتركيا وحاول أن يتلاعب بهما بالتعاون مع دول لا تعرف المنطقة ولم تدرس تاريخها ومع دول صغيرة قدَّمت له المال بغير حساب، يتطلَّب منه العمل الجاد على إعادة بناء جسور الثقة والصداقة مع هاتين الدولتين اللتين تشكلان صمام الأمان في منطقة الشرق الأوسط، فما يقوم به أردوغان الآن من بناء استراتيجية جديدة لسياسته الخارجية، هو الطريق السليم لتصحيح مسار بلاده القريبة من شعوب المنطقة العربية، التي يهمها عودة العلاقات الخليجية التركية إلى الطريق الذي يحقّق المصالح المشتركة بين الطرفين، وهذا لن يتحقَّق إلا في التزام أردوغان بسياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ووقف رعايته ودعمه للإخوان المسلمين ومحطاتهم الفضائية التي تبث سمومها في كل الأرجاء بشكل تام. المحلل السياسي للشؤون الإقليمية ومجلس التعاون
مشاركة :