المتتبع لسيرة الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - يجد فيها العديد من الدروس والعبر والمواقف المشرفة كما يجد البطولة والإقدام فسيرته العطرة لا زالت معيناً لا ينضب يرتوي منه الباحثون على مرّ الليالي والأيام ومن تلك السيرة العطرة نستذكر مواقفه في الحج، فمن عادته في كل موسم من مواسم الحج الإشراف بنفسه على الوسائل التي اتخذت لتأمين راحة الوافدين من حجاج بيت الله وأن يطلع على الاقتراحات التي ترفع لجلالته من الحكومة والأهالي والحجاج ثم يعهد بعد ذلك إلى لجنة خاصة للنظر في كل الأمور ودراستها وبحثها وبعد أن تنتهي اللجنة من استقرائها وتمحيصها ترفع لجلالته تقريراً فيصدر أمره السامي بتنفيذ ما جاء في التقرير من مشروعات خلال العام الذي يلي ذلك الموسم، حتى إذا جاء موعد الموسم القادم كانت أسس إدارة تعنى بشؤون الحج وأشرف شخصياً على رعاية ضيوف الرحمن واستقبال وفود الحجاج كل عام الحكومة قد أتمت هذه المشروعات وهكذا، ومن الأمثلة على ذلك في موسم حج 1347 ه رأى في موسم الحج أن الحجاج يلاقون عناءً ونصباً من الزحام أيام الإقامة في منى لوجود شارع كبير واحد فقط وضيق الأزقة فيها فأصدر أمره السامي بفتح ثلاثة شوارع كبرى فيها أيضاً فأصبحت الشوارع الواسعة في منى أربعة، يخصص واحد منها للمشاة والثاني ل (الشقادف) والثالث للعربات والدواب والرابع ل (الهجين)، وكي نلقي الضوء أكثر على إشرافه ومباشرته لأعمال الحج نورد تفاصيل حجته التي شهدها العام 1361 ه وما جاء في تلك الحجة من أعمال جليلة في خدمة ضيوف الرحمن، وقبل أن نسترسل في سرد أحداث هذه الحجة المباركة لابد أن نشير إلى ما كانت عليه أرض الحرمين قبل أن تنضم إلى لواء جلالته لنعرف الفرق والبون الشاسع قبل ذلك وبعده. من الخوف إلى الأمن تشير المصادر التاريخية إلى ما آلت إليه أحوال الحج وشؤون الحجيج في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي من تدنٍ وأهوال، بلغت حدّ قتلهم وسلب أموالهم وحوائجهم من قبل قطّاع الطريق أو موتهم جوعاً وعطشاً وبرداً، ويبدو أن أحوال الحج وشؤون الحجيج في بداية القرن العشرين لم تتحسن كثيراً عما كانت عليه خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، وهكذا كانت شؤون الحج وأحوال الحجيج قبل العهد السعودي فزعاً وهلعاً نفسياً واضحاً وإجهاداً بدنيا وصحياً مبرحاً لضيوف الرحمن منذ وصولهم إلى مكة المكرمة وإلى أن يعود من سلم منهم إلى دياره، واستمرت الأوضاع على هذا النحو حتى استردّ الملك عبدالعزيز الحجاز، حيث أكّدت تصريحاته في ذلك الوقت على أن تحرّكه صوب الحجاز لم يكن طمعاً في أراضيه أو تسلطاً على أهاليه، وإنما كان لإعادة العدل والاستقرار والأمن والاطمئنان لأهالي الحجاز، وحجاج بيت الله الحرام وزوّار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما صار بالفعل منذ دخول المؤسس الراحل جلالة الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - أرض الحجاز وضمها إلى سلطانه فقد استطاع أن يحقق الأمن المفقود وأمّن للحجيج الطرق وأزال ما كان يعرقل طريقهم نحو مسعاهم، كما جعل رعاية شؤون الحج والحجاج وخدمتهم في موضع اهتمامه منذ انضمام الحجاز إلى الدولة السعودية فقد أسس للحج في عام 1345ه إدارة تعنى بشؤون الحج باسم (لجنة إدارة الحج) ثم صدر في عام 1365 ه أمر ملكي بتشكيل (المديرية العامة لشؤون الحج) وكانت مسؤوليتها النظر في الأمور المتعلقة بشؤون الحج من إشراف على كل ماله علاقة بالحج ومشروعاته واستقبال الحجاج في موانئ القدوم الرئيسية في الحجاز ورعاية شؤونهم الصحية وتوفير وسائط النقل لهم بين المشاعر المقدسة وذلك بالتنسيق مع الدوائر الحكومية وهيئات نقل الحجاج، ويتضح ذلك جلياً من خلال إشرافه المباشر بنفسه على خدمة الحجاج والمعتمرين لبيت الله الحرام في كل عام فساد الأمن، ولمحاربة المخالفات البدعية التي كانت تمارس خلال موسم الحج من قبل بعض المطوفين نتيجة الجهل في بعض الأمور الشرعيّة فقد أصدر جلالته مرسوما ملكيا في عام 1347ه يقضي بإلحاق جميع المطوفين بمدرسة تم تأسيسها للمطوفين، وذلك لتلقي العلوم الدينية المفيدة لهم في مجال عملهم. طريق الرحلة وكان الملك عبدالعزيز يغادر العاصمة الرياض متوجهاً إلى مكة المكرمة قبل موسم الحج بوقت كاف حيث يتم تجهيز الموكب الملكي الذي ينطلق بسياراته التي تحمل الحاشية والمؤن والتجهيزات الخاصة للرحلة الطويلة من فرش وأدوات طبخ ومايحتاج اليه أثناء الطريق الذي كان طويلاً وشاقاً وغير معبد حيث تمر السيارات عند خروجها من العاصمة الرياض إلى الحجاز بعدد من الأماكن والمحطات والمدن والقرى والتي تبلغ الخمسين وهي: طريق مغرزات والجبيلة والعيينة والحيسية والخمر وطلعة غرور وسبع الملاف والحيش والميركة والعويند، بالإضافة إلى طريف الحبل ومرات وخط قنيفذة ونفود السر والخفيفية وشعيب التسرير (القرنة) والدوادمي، وكذلك البيضتين ووادي الرشاء والرمادية وذريع والبجادية وطينان والقاعية وقويعان والسليسية وعفيفة، إلى جانب عفيف والمشف وشعيب اللنسيات وشعيب الخضارا ودعيكان والدفينة والنصايف وصبخا الموية والمويه القديم وقطان، ولا ننسى رضوان وركبه والعرفاء وعشيرة ووادي العقيق وريعان عشيرة والسيل وابهيته واليمانية ولزيمة والشرائع ثم مكة المكرمة. حجة الملك عبدالعزيز وكان الملك عبدالعزيز يشرف على سير الحج سنوياً وفي معظم تلك السنوات يكون حاجاً جنباً إلى جنب مع الحجيج وقد وثقت العديد من هذه الحجات التي كان في معية جلالته عدد من الكتاب والمؤلفين مثل حج عام 1353 والتي وثقها الحاج الياباني محمد صالح ( ناكيشي سوزوكي) والمؤلف فؤاد حمزة وكيل وزارة الخارجية آنذاك ورشدي الصالح محسن رئيس تحرير جريدة أم القرى، وكذلك حجة عام 1355 ه، ومن ذكريات حج جلالته في عام 1361 ه نستعرض أبرز ما حصل فيها حيث غادر مكة في اليوم الثامن من ذي الحجة وهو يوم الأربعاء إلى منى وبات بها إلى الصباح وقضى الليل في عبادة الله وفي صباح يوم الخميس الذي هو يوم وقوف عرفات واصل السفر إلى عرفة ونزل بالقرب من مسجد نمرة حيث أدى هناك صلاة الظهر والعصر جمع تقديم ثم سار مع حاشيته إلى الصخرات التي وقف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وظل واقفاً يلبي الله ويكبره ويسبحه حتى غربت الشمس، فنفر جلالته إلى مزدلفة وقضى الليل فيها في التعبد وذكر الله والصلاة والدعاء إلى الصباح وبعد أن ذكر الله عند المشعر الحرام غادر مزدلفة إلى منى فرمى جمرة العقبة وتابع سيره إلى مكة فطاف بالبيت الحرام وعاد بعد ذلك إلى منى لإتمام شعائر الحج، وجرت عادته في كل عام أن يستقبل حجاج بيت الله الحرام في منى في اليوم الثاني من أيام عيد الأضحى المبارك فما كادت تشرق الشمس في ذلك اليوم حتى بدأت جموع الحجاج الزاخرة من جميع الأجناس تفد إلى قصر جلالته كما خفت جموع الأهالي من جميع الطبقات قاصدين القصر الملكي للتشرف بالسلام على مليكهم المحبوب وتقديم تهانيهم وإخلاصهم في هذه المناسبة السعيدة، وكانت قد أعدت سرادقات فسيحة أمام القصر لاستراحتهم فيها فامتلأت بهم على سعتها، وفي منتصف الساعة الرابعة شرّف المؤسس مكانه في صدر صالون الاستقبال الكبير حف المهنئون من كافة الطبقات ومن جميع الأجناس من الحجاج والأهالي إلى السلام عليه فكان يستقبلهم بما فطره عليه من مكارم الأخلاق ويظلون في حضرته بعض الوقت حيث تدار عليهم القهوة العربية والمرطبات ثم ينصرفون ويتشرف غيرهم بالسلام تباعاً، ثم تقدم الشاعر أحمد إبراهيم الغزاوي وعضو مجلس الشورى فألقى قصيدة ثم تقدم الدكتور محمد عبدالسلام العبادي المدرس بكلية الطب وألقى خطبة ضافية بالنيابة عن شباب الجامعتين الأزهرية والفؤادية أشاد فيها بمآثر الملك وشكر مالقوه من مساعدات وتعضيد، وبعد ذلك تشرف أعيان الحجاج بالسلام على الملك عبدالعزيز ثم ألقى عبدالحميد زجلا خطاباً وخطاباً آخر من الشيخ حامد الفقي، واستمر الملك عبدالعزيز إلى أن أنهى مناسك الحج متابعاً كل ما فيه راحة الحجيج وسلامتهم، وبعد أن ينتهي موسم الحج يمكث شهراً أو شهرين في مكة ومن ثم يغادر قافلاً إلى الرياض بعد أن يطمئن على نجاح موسم الحج الذي أشرف عليه بنفسه طيلة مدة مكثه بمكة المكرمة . تحمل نفقات الحج ومن ضمن اهتمام المؤسس الراحل بأبناء شعبه الذين لا يستطيعون تحمل نفقات الحج فقد دأب مع بداية الستينيات الهجرية على بعث رسائل إلى المشايخ وأمراء البلدان وأمراء القبائل قبل الحج بحوالي شهرين يأمر فيها بحصر الناس المحتاجين والفقراء الذين لا يقدرون على الحج إمّا لعدم قدرتهم على تحمل نفقات الحج أو لوجود إعاقة لديهم ويحتاجون إلى عناية ورعاية خاصة ورفع ذلك إليه حيث يتم إرسال سيارات لنقلهم من أماكن إقامتهم إلى مكة والمشاعر المقدسة واستضافتهم حتى إتمام نسك الحج ثم إعادتهم إلى أماكن إقامتهم، وكان يُخصص ما يقارب أربعة أو خمسة أشخاص يقومون ويشرفون على الرحلة. جهود خالدة إن الجهود التي بذلها الملك عبدالعزيز في سبيل تسهيل الحج والعناية بكل ما يهم الحجاج ويريحهم لا تكاد تعد ولا تحصى ومن الأمثلة على ذلك جمع المصلين في المسجد الحرام خلف إمام واحد وذلك منذ دخوله إلى مكة في عام 1343ه وقيامه كذلك ببعض الأعمال العاجلة والتي تحتاج الى الترميمات والإصلاحات لتضرر المسجد الحرام وقاصديه منها فكانت تلك الأعمال تعرف بعملية صيانة شاملة لكافة الأجزاء والمواقع الخربة التي تتطلب الإصلاح سواء تلك التي في جدار المسجد وأرضياته وأعمدته والأروقة والمماشي وما يعرف بحاشية المطاف حيث تم ترخيم كافة أرجاء المسجد الحرام وتجديد ما كان به من الدهان بدهان جديد وإصلاح كافة أبواب المسجد الحرام وأرضياته والأروقة إضافة إلى كسوة الكعبة المشرفة في 1343ه بكساء من (القيلان)، وإصلاح عين زبيدة وأمره بتعميرها على نفقته الخاصة وفرش ورصف شارع المسعى بحجر الصوان المربع وبالنورة وهذبت جانبا الشارع وكان ذلك الشارع هو أول شارع رصف بمكة، وعمل مظلات قوية ثابتة على واجهات الأروقة مما يلي الحصوة من الجهات الأربع وكانت من القلع الأبيض تشرع أيام أشهر الحج وصلاة الجمعة لوقاية المصلين من أشعة الشمس وحرارتها، وإنشاء دار خاصة لصنع كسوة الكعبة المشرفة بأجياد، وأمره في عام 1348ه بصرف عموم مرتبات خدمة المسجد الحرام من صندوق المالية وزاد في مرتبات البوابين والمؤذنين الضعف بعد انقطاع ريع أوقاف الحرمين التي ترد من الممالك الإسلامية، وفي عام 1351 ه أصدر أوامره بوضع حرس عند الحجر الأسود والمقام والحجر، كما أمر بإصلاح وتجميل الطوق القديم للحجر الأسود، وفي عام 1370 ه اشترى عين الجديدة وأدخلها إلى مكة لسقيا أهلها وقاصدي البيت الحرام وسميت فيما بعد بعين العزيزية تخليداً لذكرى مجريها، وفي عام 1373 ه أدخلت الكهرباء في المسجد الحرام ومكة فأمر جلالته بإدخال المراوح الكهربائية بالمسجد الحرام. متابعة سنوية واعتاد الملك عبدالعزيز سنويًا على قيادة موكب الحج والإشراف بنفسه على خدمة الحجيج على مدى ثلاثين عامًا من حياته حتى توفي - رحمه الله – ولم يتخلف خلال تلك الفترة عن مواسم الحج إلا ست سنوات، أناب في اثنتين منهما نائبه في الحجاز الأمير فيصل بن عبدالعزيز، وأربع منها أناب ولي عهده الأمير سعود بن عبدالعزيز - رحمهما الله- والسبب في ذلك الذي جعلته لا يؤدي الفريضة في تلك السنوات التي غابها هو حرصه على المحافظة على المال العام وتوفير بعض مصاريف الحج لكي تكون من نصيب المحتاجين من هذا البلد وكذلك تخصيص جزء من هذه الأموال لإعطائها المواطنين غير القادرين على الحج كي يتمكنوا من أداء فريضتهم، وفي مناسبات مشابهة قام رحمه الله بإنابة أبنائه الملوك سعود وفيصل رحمهما الله لقيادة مواكب الحجيج والإشراف على راحتهم وسار على نهجه أبناؤه من بعده، وفي عصرنا هذا نرى كل المسؤولين في الدولة وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز وولي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز وأمير منطقة مكة المكرمة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز يشرفون إشرافا مباشرا على سير الحج، إذ كان الملك عبدالعزيز مدرسة في التعامل مع شؤون الحج بما قدّمه من خدمات جليلة للحجاج لا زالت عالقة في الأذهان وتتذكرها الأجيال على مر الزمان.
مشاركة :