أمريكا وروسيا.. نفوذ الشرق الأوسط

  • 4/2/2021
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

ما الذي يجري في السنوات الأخيرة على صعيد الشرق الأوسط، لجهة ملء مربعات النفوذ، وإعادة ترتيب أوراق الهيمنة، لا سيما بين الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وروسيا من جهة أخرى؟ يمكن القطع تاريخيا أنه ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بدا وكأن الشرق الأوسط قد أضحى إرثا أمريكيا بإمتياز، لا سيما بعدما حدث من إنزياح للقوى التقليدية القديمة مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا . وعلى الرغم من ملء الإتحاد السوفيتي لمربعات قوة خلال عقدين، وتحديدا من منتصف الخمسينات إلى منتصف السبعينات في عدد من دول الشرق الأوسط، إلا أن ما تلى ذلك من أعوام ، مثل أكبر تجلي للنفوذ الأمريكي، وبخاصة بعد إتفاقية كامب ديفيد، والتي أنهت حالة الحرب بين مصر وإسرائيل. عبر ثلاثة عقود ظلت واشنطن هي الصديق الأقرب والأكبر لمعظم إن لم يكن كل العالم العربي، ولم تفلح صيغ الشعارات الديماجوجية من القلة القليلة التي كانت تصف واشنطن بالإمبريالية، ذلك أنها كانت تعاديها جهرا ، وتتوسلها سرا . على أن شيئ ما تغير بعمق في العقد الثاني من هذا القرن، وبخاصة مع إنطلاق ما أصطلح على تسميته زمن الربيع العربي، حيث القاصي والداني يعلم تمام العلم، أنه لم يكن على هذا النحو بالمرة، وإنما كان شتاء أصوليا دفعته قوى أمريكية، في مقدمها إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما. والشاهد أن أمران تغيرا تمام التغيير في السنوات العشر المنصرمة، فمن جهة فقد غالبية سكان المنطقة، شعوبا وحكومات، ثقتهم في واشنطن، تلك التي تخلت عن أقرب حلفاءها، حتى وأن حاولت الإدارات المختلفة لدول الشرق الأوسط مواراة أو مداراة الأمر من قبيل الدبلوماسية الوقائية، إن جاز التعبير. وعلى الناحية الثانية بدأ يرسخ عند الكثيرين ، أن واشنطن لم تعد تعبأ كثيرا بمنطقة الشرق الأوسط ، والخليج العربي ، لسببين رئيسيين ، الأول هو أنها لم تعد في حاجة إلى نفط تلك المنطقة ، بخلاف المشهد في أوائل سبعينات القرن العشرين ، والثاني هو أن إسرائيل قد شبت عن الطوق ، وباتت قادرة على حماية نفسها عسكريا من جهة ، عطفا على أن حالة العداء لها وسط العالم العربي تخفت يوما تلو الأخر ، وخير دليل على ذلك تصاعد وتيرة الإتفاقات الإبراهيمية بين الدول العربية وإسرائيل . هل أمريكا حقا عاقدة العزم على الإنسحاب من الشرق الأوسط ؟ الجواب غير واضح بالمطلق ، لكن المؤكد جدا هو أن هناك من عرف كي يغزل على متناقضات السياسة الأمريكية ، ويجد له مسارات ومساقات إلى قلب الدول الخليجية والشرق أوسطية الفاعلة ، وذات الوزن السياسي والإقتصادي معا . عرف الروس بنوع خاص كيف يدركون أقصى إستفادة من أخطاء باراك أوباما ، والتي نجمت عن فلسفته السياسيه المعروفة باسم ، " القيادة من وراء الكواليس ". ولعل الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لدول الخليج العربية ، الإمارات والسعودية وقطر ، في وقت سابق من شهر مارس آذار الماضي ، قد ولدت من دون أدنى شك حالة من عدم الإرتياح لدى إدارة بايدن ، وليس سرا أن لهجة وزارة الخارجية الأمريكية بعد تلك الزيارة ، قد تغيرت بشكل مثير ، فقد تكشف لواشنطن أن العالم لم يعد أمريكيا ، وأن هناك دروب أخرى يمكن لدول المنطقة السير خلالها ، وكأن العالم العربي أو البعض المهم منه ، قد قرأ رسالة التشدد الأمريكية تجاه بوتين وروسيا بالمعكوس ، وسعوا بدلا من التماهي مع الجانب الأمريكي ، في طريق تحسين العلاقات مع موسكو . يعن لنا التساؤل :" ما الذي يدفع العالم العربي إلى إعادة نسج الخيوط ، وتنسيق الخطوط مع أحفاد القياصرة ؟ يمكن القطع أن هناك العديد من المبررات التي تجعل موسكو حليف غير مزعج ، فهي أول الأمر وأخره لا تتعاطى مع أحد من خلال الفوقية الأخلاقية ، حتى وإن كان العالم يدرك أنها فوقية زائفة ، ذلك أن الذين يملأون الدنيا صياحا ونحيبا على حقوق الإنسان ، هم من أبادوا أهل القارة الأمريكية الشمالية، والذين فاق عديدهم المائة واربعين مليون هندي أحمر ، وفي الزمن الحديث هم من أستخدموا القنبلة الذرية ضد المدنيين في هيروشيما ونجازاكي. لا تزال بعض شعوب المنطقة ومنهم الشعب المصري بنوع خاص، يتذكرون لروسيا ، أنها من قدم يد المساعدة في بناء السد العالي الذي حفظ مصر من الجفاف، وهي التي ساعدت في بناء البنية التحتية الصناعية لمصر في ستينات القرن الماضي ، تلك التي مثلت سويداء القلب من القطاع العام الذي كفل للمحروسة عدم الإنهيار بعد يونيو 1967، عطفا على ما تقدم فإن السلاح الذي حارب به المصريون في أكتوبر من عام 1973 ، وحققوا به أفضل وأكبر الإنتصارات ، كان سلاحا روسيا ، وفي الأعوام الأخيرة تسارع الخطى في بناء المفاعل النووي المصري لتوليد الطاقة الكهربائية اللازمة لعملية التنمية في العقود القادمة. المثال المصري يعطي إنطباعا عما كان عليه وضع روسيا في الشرق الأوسط في الماضي ، وخلال الأعوام العشرة المنصرمة ، ظهر نوع من الولاء الروسي لحلفاءها ، كما الحال مع النظام السوري ، وبغض النظر عن موقف البعض منه بالمدح أو القدح . هل يعني ذلك أن الروس ملائكة بأجنحة ؟ لا يمكن أن يكون ذلك كذلك ، لكنهم في كل حال يميلون إلى تفعيل فلسفة البراجماتية المستنيرة ، ويسعون إلى تحقيق مكاسب اقتصادية في المنطقة، وفتح أسواق أمام السلاح الروس، والذي شهد طفرات كبيرة في العقدين الأخيري، وبات بدرجة ما مرغوبا ومطلوبا ، مثله مثل السلاح الأميركي. تدرك موسكو أن الضغوطات الفوقية الأمريكية حكما ستولد ردات فعل عربية في إتجاه معاكس ، وتعرف كيف ومتى تستغل الفرصة ، فيما لا يزال العم سام مصرا على تقمص الدور النبوي اليوتوبي ،والحديث بلسان الفضيلة المطلقة، والجميع يعرف أن حقيقته ليست على هذا النحو أبدا . الخلاصة ...العقول السياسية الروسية تعرف يوما تلو الأخر كيف تكسب المزيد من الاصدقاء في الشرق الأوسط والخليج العربي ، فيما واشنطن وفي زمن بايدن تبدو أمام إختبارات عديدة يشك المرء أنها ستتجاوزها ، لا سيما إذا مضت في طريق العقلية الأحادية التقليدية .

مشاركة :