تعني فكرة التسامح في جوهرها القدرة على تحمل تناقضات الآراء المخالفة واتساع الصدر للتجاوز عن الأفعال الشاذة التي لا يحبها عادة الإنسان والصبر على السلوك غير المرغوب فيه ، وتكمن حقيقة مبدأ التسامح بصفة عامة في تلك المساحة التي يمكن أن توفرها نفس كل فرد من أجل التعايش مع المظاهر المتناقضة لمنظومته الفكرية والأخلاقية ، وقبول فكرة التعايش معها وهذا يعني التجاوز عن سبل الانقسام الذي يقوم على أساس الدم او الرابطة القومية أو الدين أو الطائفة والعشيرة أو غيرها. يتضمن مبدأ التسامح في جوهره التأكيد على ضمان حق العيش والحياة بسلام حتى ولوعلى نحو مختلف أو على نمط مغاير بين الشعوب ، وهو بذلك شديد الارتباط بحقوق الإنسان وبجملة الحريات الأساسية كممارسة حرية الرأي وحق التعبير وحق الاعتقاد ، وينصرف معنى الدعوة إلى التعايش والمطالبة بترسيخ مبدأ التسامح مباشرة إلى فرضية عدم وجود موافقة على ما هو مشترك حتى وإن كان في تقدير البعض أقرب إلى فكرة الشر كنقيض لفكرة التسامح أي اللاتسامح مثل التعصب في الرأي والموقف والتطرف في الفكرة ومحاولة فرض الرأي ولو بالقوة وبهذا المعنى فان مبدأ التسامح يقوم على أساس أخلاقي بأبعاد فكرية تجاه المعتقدات والأفعال والممارسات ، وفي التسامح خير ، ونقيضه شر ليس له في الأصل وجود بذاته بل أنه يتشكل بسبب غياب الخير ، ولم يعد مع تطور مفهوم مبدأ التسامح أي اعتقاد بأنه مجرد وازع أخلاقي وحسب بل أصبح واجبا يتحتم احترامه في عالم متنوع ومختلف ومتناقض . قد نلاحظ في مختلف الإيديولوجيات أن ثمة مقدار من التشدد عندما يجري التأكيد على ثوابت أساسية ومحددة خاصة التي تتعلق بمقومات الهوية التي لا يقبل تناولها التعبير المطاطي ولا يتحمل تأكيد بداهتها الصيغ الهلامية ذات التأويلات المتعددة ، ومثل هذا المقدار من التشدد يدخل في دائرة التبرير التي تتطلبها حيوية البناء الفكري وضرورة الدفاع عن المواقف والآراء والذود عن العقيدة ، هذا فيما يرى آخرون أن هذا التشدد ضرب من ضروب الاستبداد والتعصب وسبيل للانغلاق وأداة إقصاء الرأي الآخر لأن الاعتقاد السائد يصل بالأمر إلى حد التأكيد على أنه كلما كانت هناك مغالاة لفرض المعتقد بالقوة كلما ترسخت فرضية ممارسة الارهاب الفكري الذي يمنع مجرد الحوار ويضعه في إطار المحرمات بل ويعتبر أنه يخفي رغبة لخرق السنن والشرائع ، في حين أن سلوك الباحث يختلف عن سلوك الداعية السياسي لأن الباحث ينشد إجلاء الحقيقة ويريد إظهارها بغض النظر عن طبيعة الإيديولوجيا السائدة والعقيدة المتحكمة فهو ينظر إلى النص الدستوري مثلا كفعل فكري ابداعي انساني بعيدا عن ذلك التقديس الذي لا يخفيه فكر رجال الدين وأراء علماء الدعوة والعقيدة ، أما رجل القانون فينظر إلى النص كفعل مقدس بحد ذاته يريد تكييف الوقائع وتفسير الظواهر وفقا لمحتوى نصوصه . تعددت الآراء حول مبدأ التسامح بين من يؤكد أن كل البشر يتمتعون بالحق في الحرية الطبيعية لكنها حرية مشروطة بالأخلاق والقانون الطبيعي الذي هو في الأصل عقلاني ، وأن ثمة ضوابط على هذه الحرية الطبيعية التي هي أساس الحريات التي تمارسها ثلاث مؤسسات ضرورية أفرزتها مطالب الفصل بين السلطات وهي السلطة التشريعية لتحديد الحقوق والتمتع بها ، والسلطة القضائية التي تفصل في النزاعات ، والسلطة التنفيذية ، المؤسسة التي تفرض العقوبات على خارقي الحدود ، وهناك من يضيف سلطة رابعة وهي الصحافة التي تمثل ضمير الرأي العام الداخلي . أثارت مسالة التسامح اهتمام الكثير من الفلاسفة الذين اعتبروه المبدأ الأول لقانون الطبيعة ولحقوق الانسان كافة لأنه نتاج ضعف الكينونة البشرية التي تميل للخطأ ولهذا يجب أن يسود تسامح البعض تجاه جنون البعض الاخر بشكل متبادل ومتقابلا بين الفرقاء دينيا واجتماعيا وقوميا .. يرفض الرأي العام في المجتمعات الأوروبية المفتوحة مقولة أن التاريخ يعيد نفسه ، بمعنى أنهم لا يطيقون مجرد تصور إعادة تكرار فظاعة الماضي وآلامه بعد الاحتراب الطائفي والديني والقومي والانقسامات الحادة ، وبرغم ذلك لم يمنع هذا بعض الأنظمة الشمولية صعدت إلى السلطة من تجاهل مبدأ التسامح باقتراف انتهاكات جسيمة شهدت مجازر وتصفيات لأعوان زعيم النازية «هتلر» ومحاكمات « ستالين» ومجازر البوسنة والهرسك والشيشان وجرائم الصهيونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة والتمييز العنصري في إفريقيا وقيام مانغيستو هيلا مريام بتصفية رفاقه في أثيوبيا بسبب غياب مبدأ التسامح وتغليب لغة القوة والسلاح على لغة الحوار والتفاهم بشكل مؤسف ومثير للقلق لأن كل هذه الأحداث كانت خير دليل على أنه لم يكن للتسامح أي هامش يسمح بالتحرك لتأكيد فضائله بل أن التسامح لم يكن يحظى بالاحترام حتى في ظل نظام دولي جديد . الدفاع عن قيمة التسامح هو دفاع عن قيمة الديمقراطية في حياة الشعوب ورقي الأمم ، وهي من أسمى القيم الإنسانية التي تعطي القدرة على احتمال وقوع الخطأ والقبول بالتعايش والاحتكام إلى العقل والإصغاء إلى الرأي العام لتوسيع وتعميق الفكر الديمقراطي ، والفعل هو الدليل العملي والبرهان المادي على حقيقة النوايا وطبيعة التوجهات لهذا فان تباين الاجتهادات واختلاف التفسيرات إنما يدل على تعدد الطرق الموصلة إلى الحقيقة فالطريق إلى الحق ليس واحدا ، والواقع أن الأمر الغائب في حقيقة حاضرنا هو الالتباس الشديد بين نبل المسعى وشرف المقصد وسمو الهدف ، وبين معني الرضوخ والخنوع والاستسلام البعيد عن المعنى الحقيقي والقيمة الكبيرة لجوهر التسامح كمبدأ إنساني وغاية أخلاقية تؤسس لبناء الحضارات . يطرح المجتمع الدولي ثقافة السلام مطلبا ضروريا بديلا لثقافة العنف التي انفلتت من عقالها وصارت أكثر رهبة ، كما أصبحت المنظمات العالمية تفرضها حلا حضاريا لما تتضمنه من أفكار التسامح والوئام ، وإذا قررت الشعوب أن تختار ما يجلب لها ولعموم الإنسانية شعورا عميقا بالأمن فهذا معناه استعدادها للتجاوب بصدق لنداء السلام النابع من صميم إرادتها بترسيخ مبدأ التسامح كوسيلة يمكن بها قهر أفكار الكره والغضب ، إننا بصدد الحديث عن ثقافة السلم مع النفس والسلام مع الآخرين وكذلك عن جهود التمكين لثقافة السلم وهو بطبيعته موضوع مترامي الأطراف ومجرد تناوله هو مكسب وثقافة وفكر وسلوك ينقل المجتمعات إلى مناطق حياتية أخرى يسودها التسامح والتعايش بحب فيعمها الرخاء ، فالتسامح كمبدأ إنساني يعني نسيان كل آلام الماضي بمحض إرادتنا ، وبمعنى آخر التخلي طواعية عن إيذاء الغير بأي شكل والعفو عند المقدرة وعدم رد الإساءة بالإساءة والترفع عن الصغائر والسمو بالنفس ، والتسامح مفهوم اجتماعي دعا إليه الأنبياء والرسل والمصلحين لأهميته الكبرى كقيمة تحقق وحدة المجتمعات وتماسكها وتضامن أفرادها ، والقبول بمبدأ التسامح يعني مباشرة تبني فكرة التعايش وتجاوز سبل الانقسام ، كما أن التسامح فكرة أخلاقية ذات بعد فكري تناهض التعصب والتطرف والعنف وترفض الخلافات القائمة على الاختلافات بين الاتجاهات الثقافية ، والتأسيس للتعايش السلمي يقتضي بداية العمل على إٍرساء مفهومه الواسع في القوانين ثم ترسيخه بمعناه العام والشمولي في الوثائق الأساسية للدولة لفرض أنماط سلوكية وعملية وفكرية من اجل تثبيت الإيمان بالتسامح نحو تشكيل نسق كامل من الحقوق ترتقي بمبدأ التسامح إلى المستوى الذي يجعله قادر كقيمة إنسانية يدخل العدل في مضمونها على الاستجابة لطبيعة كل المهام خلال كل مراحل التنمية الاقتصادية والتطوير الاجتماعي والارتقاء الفكري. إن مقدار الاستفادة من قيم الحداثة وجهود التنوير ومن مبادئ ديننا الحنيف تقاس بمقدار ما نتحلى به من سعة الاحتواء لمعنى الغفران والرحمة ، وعندما أرسى تطور مفهوم التسامح قوانين أكثر إنسانية فرضت على الدول أنماطا جديدة من التفكير وإعمال العقل لاستنباط مخارج تجنب البشرية ويلات العنف والتعصب لم يكن حينها المطلوب أن نكون متعلمين كي نصبح أكثر تسامحا ، فهذه الفضيلة موجود ومتأصلة في بنية ثقافتنا ولكن تجدد التناقضات على خلفية عوامل ثقافية واختلاف الهويات والمذاهب دعت منظمة اليونسكو عام 2010 لجعله عاما عالميا لتقارب الثقافات نحو إعادة التفكير في الحوار بين الثقافات والتصدي للتطرف بعد أن حددت في عام 1995 « إعلان مبادئ التسامح « من هنا أصبح التسامح ممارسة تجعل السلام بين الشعوب واقعا ممكنا ، والقبول بضوابط مجادلة الآخرين بالتي هي أحسن والالتزام بالتعامل معهم باحترام وتقدير ، وقبول الاختلاف في السلوك والمعتقدات مهما كان حجم عدم الاتفاق وضعف التوافق بين القيم الذاتية والمجتمعية وأنماط الحياة والمعتقدات الدينية ، نحن هنا بصدد الحديث عن ضرورة ترسيخ ثقافة التفاعل والتناغم بين المرجعيات الحضارية لأنه خلفية نبيلة للعفو عند المقدرة لإشاعة الود والمحبة ، فحينما يكتب الله تعالى نجاة أحدهم من العقوبة بصفح وتسامح المظلوم ستراه يشكر القدر في ابتسامته له بهذا العفو .
مشاركة :