أفق روائي واستلهام للحكاية الشعبية وترميز للمخلوقات والكائنات و فضاء واسع للتفسير والتأويل

  • 4/1/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

حين تتسع مساحة المكان وتمتد أمداء الزمان وتتعدد مفاصل الحدث وتنفرج زوايا الشخصية ثلاثية الأبعاد وتنداح السردية الصغرى لتتماسّ مع محيط السردية الكبرى حضاريا وتاريخيا، وتسترخي لحظات الأزمة لتعبر محطّات عدّة، ثم تنغلق الدائرة فجأة لترتمي على رصيف اللحظة تقترب القصة القصيرة من تخوم الرواية، فالقصة الأولى من هذه المجموعة التي تحمل عنوانها الرئيس (سوابيط مظلمة) والسوابيط جمع ساباط، والساباط لغة سقيفة بين جدارين بينهما ممر ثابت، وهي حيز مكاني مهم وممتد في هذه المجموعة، وتحتل القصة الأولى هذه المساحة الأكبر في المجموعة ؛ إذ تكاد تلامس تخوم الرواية ؛ بل لعل مقاطعها التي تفصل بينها علامات كتابية بارزة توحي بأنها يمكن أن تتحوّل إلى فصول روائية، فمعروف أن الشريط اللغوي القصير الذي يميّزهذا اللون السردي لا يستوعب فضاء زمكانيا متسع الأرجاء ؛ بل تضيق حدوده لتبرز عبر كثافة لغويّة مركّزة تنبيء عن لحظات التوتّر العسيرة التي تمر بها الشخصية ؛ وليس من شك أن النص المشار إليه يتوفرعلى جملة من الخصائص التي تتميّز بها الخصائص الجوهريّة للقصة القصيرة، وأن الأمداء الزمانية الواسعة جاءت من خلال تقنية الاسترجاع (الفلاش باك) وأن عقدة الانتماء الّلوني والطبقي في سرديّتها الصغرى ارتبطت ارتباطا وثيقا بسرديّة تاريخيّة كبرى كانت موضوعا معبرا عن مأزق إنساني شكّل مفارقة كبرى على المستوى الاجتماعي، فقد اجتمعت الحرّيّة والرّق على صعيد واحد وتحولت الحرية إلى أزمة على المستوى النفسي لأنها فجّرت إشكالية الأمان المعيشي بعد التحرّر من العبوديّة فأصبحت الحرية حيرة تائهة والعبودية اطمئنانا وأمانا، مفارقة حقيقيّة ؛ وليس من شك أن الكاتب قد وظّف بمهارة رمزيّة الطائر(العقعق) الذي استعصى على شرك الصياد، وجعله يتفلّت من شباكه، كما أنه وهوسجين الرق يمنح الحرية للطيور التي استعبدتها فخاخه المنصوبة، حيث أغراها ب(بحشرة العنقوش ) فكان الطائر المراد صيده رمزا للمحبوبة التي علق بها قلبه وتمنّت عليه أميرة حبه أن يصطاده فبذل جهده من أجل ذلك مرارا وتكرارا مستعينا بصديقه ؛ ولكنه لم يفلح وقد كان - في موازاة ذلك - قد فشل في الظفر بمعشوقته، فقد ربط اصطياده باستمالة قلب حبيبته، هذا الربط بين خطّين رئيسين في القصة : الأول سعيه لنيل رضا الحبيبة، والثاني كفاحه من اجل اصطياد طائرها الأثير الذي كلّفته بمهمة القبض عليه، فكان القلق والتوتّر وهما عماد القصة القصيرة ( فن الجماعات المقهورة ) كما يقول إيخنباوم ، وهويحمل هموم طبقته التي ينتمي إليها . ويبدوالاتّساق واضحا في القصة بين ثنائيات متعدّدة تكفل التواصل والانسجام في هذا النص : العبيد والأحرار العاشق والمعشوق والطائر (العقعق ) والحشرة (العنقوش) والأم الشرسة والأب الحنون والغرفة الضيقة والحقول الواسعة والفتاة السيدة وبدرية الخادمة، والزواج الناجح والحلم الفاشل، وهكذا حتى الزمن ما قبل التحرير وما بعده، زمن الملك فيصل (رحمه الله ) عام 1962 وقراره بتحرير الرقيق. فمن حيث التماسك والوحدة والانسجام تبدوالقصة مكتملة الأركان مهيّأة لأن تكون رواية متعددة الفصول في الوقت التي تبدوفيه قصةً مكثفة متوترة المتن محكمة البناء . وفي قصة ( الفزّاعة ) تتبدّى نزعة الكاتب إلى التجريب، فهي تروى على لسان الفزّاعة الخشبية، المجسّم الذي يمثل حارسا افتراضيا، حيث تبدوبديلا لشخصية الحارس البشرية، واستبدال الجمادات بالإنسان واستنطاقها أمر مؤلوف في التراث السردي القديم، وهوظاهرة تجريبيّة في القصة الحديثة، على أن هذا ليس كل ما هنالك من ظواهر هذا النمط من القص ؛ بل إن تقسيم القصة إلى ستة مقاطع وتنظيم السطور في فراغات الصفحات يوحي بأنها مقاطع شعرية، بل إن ما يفضي به الكاتب على لسانها أقرب إلى الشعر الغنائي الذي يختزن في تراكيبه نفَسَا شعريا غنائيا واضحا، وينطوي على مفارقات شعرية تتمثل في واقع الحال وانتظار المآل، فما ظن أنه سجن وعبودية نتيجة الانغراس الدائم في التربة والتعرّض لعبث الإنسان والغربان، وانتظار التحرّر من الوقوف وسط الحقل يتحول إلى نموذج للتحرر بعد أن قذف بالفزاعة لقْيَا مهملا في المخزن، تلك مفارقة تنطوي على حكمة بالغة ما بين الزيف والحقيقة والأمل والخيبة ؛ وهذا الحديث الداخلي حديث النفس أقرب ما يكون إلى البوح الشعري ؛ فضلا عن أن كل مقطع من المقاطع الستة يمثل مرحلة من مراحل الفزاعة ومرآة تتبدّى فيها خلائق من يرتادون الحقل وتنطوي على حقائق وجوديّة بالغة العمق وتكشف عن دراما نفسية . الهاجس الوجودي يبدومنذ البداية ؛ فالفزاعة منظور سردي يرصد الأحداث والشخصيات والزمان والمكان والحركة، عدسة تلتقط كل ما يحدث في الحقل فهي رادار خفي شديد الحساسية وظّفه الكاتب بعناية فائقة وفي منظومة بنائية متواشجة، ففي المقطع الأول تبدوالمفارقة الساطعة في الوقت الذي يغادر فيه الحارس الفعلي الحقل، وتتولّى الفزاعة ذلك نيابة عنه تبدأ السرقة ؛ ينهار الوهم وتصبح الفزاعة إذنا بممارسة السطوفي الوقت الذي كان منوطا بها منع السرقة . وفي المقطع الثاني السخرية من الحارس الذي يسخّر الفزاعة لحراسة المحصول فيقتات من ريعه وتتعذب الفزّاعة فيه، وهوإيحاء بالاستضعاف والظلم ؛ فالفزاعة رمز للاضهاد والانكسار، حيث يتعاضد الزمان والمكان في تكريس هذه المظلمة، مفارقة ساخرة يهزأ بها النص من هذا التحقق الوجودي الزائف. وفي المقطع الثالث تتجلّى التقلبات في الأحوال والمألات والأزمان، فالبرد والحر والصيف والشتاء والخريف والليل والنهار : الزمن الكوني والطبيعي والنفسي ؛ كل ذلك : كرُّ الجديدين والفصول وثبات الحال والفزاعة في مكانها في تلك الحلقة الوجودية المفرغة. حيث تنبت الأحلام وتنهار وتتوق الأماني وتخيب . وفي مرآة الحضور والغياب تتعاور المكان البشر والحيوان والحشرات والطيور، كلّ مسخّر لما خلق له، والجمود والسكون وثبات الحال من شأن المضطهدين والمستضعفين، تمضي المصائر إلى صيرورتها حيث البوار والإهمال. في قصة (خائنة اللوز) تأخذ المفارقة شكلا جديدا فهي مفارقة كلّية تستوعب الموقف بكامله ؛ فالشريط اللغوي المحدود للقصة التي تقترب من القصة القصيرة جدا أتاح له فرصة بناء المفارقة بين موقفين : موقف حاملة اللوز وهي في طريقها إلى العريش الذي تأوي إليه مع زوجها الذي كان في انتظارها والعاشق الذي يرقبها محاولا التقرّب إليها وخوفه مما قد ينتظرها من الشخص الذي ولج إلى عشها ؛ فقد تبادلا المواقف في بنية الحكي ؛ فالعاشق ظنّ الزوج ذئبا يتربّص بها، فكانت الصدمة حين تبيّن له أنه أصبح هوالخطر الماثل وليس الزوج، فكان الازدواج في المواقف المفارقة، وفي الجزاء الذي لقيه ؛ فكانت الصفعة من نصيبه، وكان اللوز من نصيب الزوج، وواضح أن الكاتب نجح في إحداث المفاجأة الصدمة التي كانت جوهر لحظة التنوير التي أضاءت فضاء السرد، مبنى حكائي يقوم على الإضاء المفاجأة غير المتوقعة بعد أن بلغت اللحظة ذروة توترها وفي قصة تالية تبدوأقرب إلى القصة (الحدوتة) أوالقصة الطُّرفة ؛ ولكن الكاتب أعاد تشكيلها على نحوتبدوفيه سلسلة من المفارقات : السمكة العائدة بالجوهرة في الحكاية الشعبية، والسمكة الضائعة في الواقع، والسمكات الطازجة التي عاد بها الأب إلى المنزل ، القلق الذي انتاب الأم والاطمئنان الذي ران على قلبها بعد عودة الأب، ثم الطفلة الخائفة من العقاب فصارت بمأمن منه ، كل هذه السلسلة من المفارقات هي التى صنعت بنية القصة ونقلتها من دائرة المتن إلى المبنى القصصي. ترتكز قصص المجموعة في مجملها على عدّة عناصر رئيسة فاعلة : الطيور وبعض الحيوانات أحيانا، ثم النخيل، ثم المرأة صبيةً معشوقةً وأمّاً وجدة، ثم الطفولة،هذه العناصر تتفاعل في حيّز مكانيّ ريفي قروي وطبيعة بكر أبرز ما فيها تللك البيوت الشعبية والخضرة الشاسعة، وقد استثمر الكاتب ذلك كله في مجموعته من خلال الترميز والإيحاء القابل للتأويل، والفانتازيا الخرافية التي تلامس تخوم الأسطورة ، وذلك بإقامة لون من ألوان الحوار الخفيّ والظاهر بينها، إنه العالم البكر الذي يفترع فضاءه الكاتب فتتشكّل فيه كائناته القصصية بأساليب مختلفة . في قصة (النورس والحرية) يبدوبطل هذه القصّة ذلك الكائن البحري الذي اجتُلب إلى سوق الطيور كرها فأطلق من اشتراه سراحه متمتّعاً بما منحه إياه من حرية فجعله معادلا رمزيا للتوق الإنساني إلى الحرية التي تُغتصب قهرا، وقد عمد إلى تعميم هذا الرمز حين أشار البائع إلى أن السوق مليء بالنوارس الكبيرة ذات الأثمان العالية ؛ فثمّة بنية سطحية وأخرى عميقة لا تحتاج في تأويلها إلى جهد كبير. وفي قصة (عصفور الساعة) ذلك المخترع الذي يتحرّك فيه العصفور الصناعي داخل الألة المثبتة على الحائط، يتعلق الطفل به ويظل مشدودا إليه في بكاء مستمر حتى يراه وهويتحرك آليا، ولا يكترث بالطائر الطبيعي الذي يشتريه له والده، في إشارة رامزة إلى ما أحدثته التكنولوجيا الحديثة من أثر على الفطرة البشريّة فشوّهتها وجعلت البشر يتعلقون بمعطياتها المصنوعة وأوهامها ويعزفون عما هوطبيعي، والبنية الدلالية في هذه المجموعة برمتها تنطوي على إيقاظ الذاكرة الإنسانية واسترجاع البراءة الأولى، وكأنها عودة إلى الرؤى الرومانسية الحالمة في محاولة أخيرة لاسترداد العلاقة الطبيعية بين الكائنات . وفي قصة (شاهين ) ذلك الطائر الجميل الذي يعرضه صاحبه في سوق الطيور فيبيعه بأبخس الأثمان لأنه لا يعرف قيمته الحقيقية، ففي مقابل مئة ريال قبضها ثمنا له يأتي من يستعد لشرائه بعشرات الألوف، وفي ذلك إشارة دالة على الجهل بقيمة المقدّرات التي يمتلكها الأفراد والأمم والتفريط بها في مقابل أثمان زهيدة، وفي محاولة البائع اليائسة للبحث عمن اشتراه لاسترداده دلالة على الفرص الضائعة التي تهدر نتيجة الجهل والعجز والعجلة . يستثمر الكاتب الحكاية الخرافية في قصة (دعيدع) الكائن الخرافي في حواره مع كائن خرافي آخر أقرب إلى شخوص الأساطير، وهي (أم حمار) هذان الكائنان اللذان يرمزان إلى الجهل في مقابل (النخلة والحمامة) وقصة اتفاقهما (دعيدع وصاحبته) على الاختفاء عن الأنظار بعدما يئسا من ممارسة وظيفتهما في تخويف الأطفال وبث الرعب في قلوبهم حتى يصمتوا فيذعنوا لما يطلب منهم الكبار ؛ أمثولة رمزية متكاملة الأركان تعكس واقعا حضاريا جديدا بعد نضوج الوعي وبطلان قدرة الخرافة على استلاب ألباب الناس وإرعابهم . وفي قصة ( النخلة الأخيرة) أمثولة رمزية أخرى ترمز شخوصها إلى واقع إنساني يبدوفيه الصراع بين إرادتي الخير والشر، الأنانية والأثَرَة، فبعد الكارثة التي حلت بالنخيل في القرية وظهور النخلة الكبيرة التي أُوكلت رعايتها وتعهدها بالسقي والتلقيح والجني لـ(يعسوب )ووفرة عطائها ظلت الدسائس تحاك من قبل حرموش بما يوحي به هذا الاسم من أجل انتزاع الولاية منه، فظلّ يحرّض الشيخ (مستشار القرية وحكيمها ) حتى آل الأمر إلى اجتثات النخلة وحجب عطائها. فالنخلة رمز للعطاء وحرموش ويعسوب يمثلان الخير والشر . في قصة (أغنية الربيع ) توظيف للأسطورة والحلم وطقوس محرم وصفر في تلك الناحية التي تعتقد بأنهما شهرا الحزن والألم وتكسير الفخار “ حرقناك ياصفر/يابوالمصايب والكدر” ومحاولة التقاط النموذج الممثل لهذا الطقس (أم عباس) وصراع الوقت للحصول على تلك الأيقونة، والفشل في التقاط الصورة المأمولة من قبل المصوّر الذي خاض معركة الانتظار للحصول عليها، هذا المنحى في بناء القصة يشير إلى أن مغالبة الزمن أمر صعب والإمساك به من المستحيل . وفي قصة (نافذة الى السجن ) موازاة رمزية بين العصفور والسجين والنافذة والحريّة، فالعصفور الذي وجده السجين في غرفته قد اعتاد على الانظلاق في فضاء الله الواسع ؛ ولكنه وجد نفسه حبيس الزنزانة، وحينما أراد أن يعود سيرته الأولى في ممارسة الحرية ذبحه السجان، وجاءت عبارة السجين كنت قد شعرت أني قد ذبحت أنا الأخر إضاءة تأويلية لرمزية العصفور. هذه المجموعة تسير على نسق رؤيوي وجمالي تشترك قصصها في تشكيله، فهي تبني عالمها الخاص في بيئة ريفية تحمل ملامح شعبية فولكلورية أصيلة، تستلهم كائنتها البشرية والحيوانية طيورها وحشراتها أشجارها وخضرتها وفضاءها وتراثها وحكاياتها وأساطيرها وثقافتها، وترتبط بالواقع الحضاري والإنسانية من خلال العلامات والرموز القابلة للتفسير والتحليل والتأويل .

مشاركة :