الإنسان بطبعه يكره القيود أيًا كانت ماهيّتها، ويجنح إلى اتّباع رغباته وغرائزه ورؤاه الشخصية للعالم المحيط به، وتفاعلاته مع هذا العالم. إشكالية هذا الجنوح الشخصي أنه يصطدم غالبًا مع رغبات وغرائز ورؤى الآخرين، بالشكل الذي يخلق حالة عامة من الفوضى بين البشر، فالكائن البشري أنانيٌ بطبيعته التي تميل إلى السيطرة والبروز على حساب أقرانه. لكبح هذا الجموح الفطري الفوضوي، فإن جميع المنظومات البشرية صنعت مجموعة من القوانين لضبط التقاطعات وشبكة العلاقات فيها، فبدأت المجموعات العرقية البسيطة والتجمعات الزراعية الصغيرة بصناعة قوانين أخلاقية ترتكز على التقدير والنبذ والمكانة الاجتماعية. لكن هذه القوانين لم تعد كافية مع تعقّد المجتمع وتداخل الأعراق وأشكال العمل فيه، بالشكل الذي أصبحت فيه القوانين الأخلاقية غير كافية، وأصبح المجتمع بحاجة لإيجاد قوانين مادية أكثر صرامة وقابلية للتطبيق، فكان قانون «مملكة إشنونة» الذي عثر عليه في تل حرمل بالعراق الذي كتب منذ حوالي 2000 عام قبل الميلاد، والذي سبق «قوانين حمورابي» بأكثر من قرن – بحسب بعض علماء الآثار – هو أقدم القوانين البشرية المكتوبة، والذي أوجد مفهوم القانون في الدول عبر صيغ تكوينها المتلاحقة والمختلفة عبر التاريخ، بعد ظهور الأديان السماوية أصبح القانون مرتكزًا على هذا الدين أو مستمدًا من تعاليمه. لقد مثّل وجود القانون العمود الفقري الذي بُنيت عليه الحضارات البشرية وانطلقت من خلاله، ومثلت طرائق تطبيقه من حيث العدالة والصرامة والدقة، المعيار الأساس الذي ساهم في تقدّم أمة مقارنة بجاراتها من الأمم. فالإنسان يميل إلى الفوضى مقارنة بالانضباط، ويميل إلى الظلم مقارنة بالعدالة، إن لم يجد ما يضبط سلوكياته ويحكمها بالتساوي مع أقرانه من أفراد المجتمع. فلا يوجد إنسانٌ متحضرٌ بالفطرة، ولكن توجد قوانين متحضرة هي من تصنع منه كذلك، وتدخله كجزء من ثقافته، ليتحول مع الممارسة إلى جزء من سلوكياته وطرائق معيشته اليومية.
مشاركة :