يُحكى أن مجموعةً من الناس أرادوا الذهاب إلى بلدة بعيدة، فأخذوا ما يكفيهم من الزاد والماء للوصول إلى تلك البلدة، ولكنهم في الطريق وأثناء المرور خلال الغابة، افتتنوا بجمال الغابة وروعة أشجارها، فراحوا يقضون أوقاتا طويلة بين تلك الأشجار الظليلة والمناظر الجميلة حتى نفد زادُهم وماؤهم وساءت عاقبتُهم ولم يصلوا أبدا إلى غايتهم، من أكبر أسباب الضلال وأكثرها شيوعا هو الافتتان بالوسيلة ونسيان الغاية. نضع لأنفسنا أهدافا وغايات في هذه الحياة ونسلك طرقا ونتخذّ وسائل للوصول لتلك الغايات، ولكنّنا في كثير من الأحيان ومن دون أن نشعر، نخلط بين الغايات والوسائل، فتنقلب الوسيلة إلى غاية تستنفد كل طاقاتنا وتفكيرنا فلا نصل أبدا، وتضيع حياتُنا سدى. في إحدى السنين المنصرمة كنتُ أستعد لخوض مسابقة مهمة في الخَطابة، وكنتُ قبل موعد المسابقة بليلةٍ واحدة أتحدّث مع زميلٍ لي فقلتُ له متحمّسا وبلهجةٍ قلِقة «لا أدري ماذا سأفعل لو لم أفز بالبطولة غدا؟» فالتفت ونظر إليَّ قليلا ثم قال لي بكل برود جملةً صادمة «طيّب.. وماذا ستفعل لو فزت؟» تلك الجملة كانت كفيلةً بإصابتي بشللٍ مؤقت في التفكير والمشاعر. كل هذه الجهود التي بذلتُها وكل هذه المعاناة التي مررتُ بها للوصول إلى المباراة النهائية في هذه البطولة، وكل الأحلام التي عشتُها وأنا أتصورّ نفسي مُتوجا بكأس البطولة لهذه المسابقة، لم تكن تعني أي شيء لزميلي حتى يسألني هذا السؤال «ماذا سأفعل لو فزتُ؟» الذي سأفعله يا زميلي البليد أنني سأفرح وسأشعر بالفخر وسأضيف إلى سجل بطولاتي بطولةً أخرى، وسيغبطني المنافسون، وستُعجب بي الجماهير. مرَّت الأيام وواصلتُ المنافسة وبذل الجهود المضنية والمعاناة، وحقّقتُ البطولة مرةً تلو الأخرى «ست مرّات» ولكن بعد كل فوزٍ أصبح أكثر اقتناعا بصدقِ وعمقِ هذه الجملة التي صدمني بها زميلي. كلّ لحظات الفرح والمجد التي أعطتني إياها تلك البطولات كانت خاطفة قصيرة الأمد، ولم تكن طويلة بما يكفي لإرواء نَهم وظمأ لا ينتهي في داخلي، كان هذا الظمأ الذي لا ينتهي هو الذي يدفعني لخوضِ منافسةٍ بعد أخرى، على أمل أن ينطفئ هذا الظمأ بعد فوزٍ جديد، ولكن بلا جدوى. يبدو أن منشأ هذا الظمأ الذي لا ينتهي هو غايةٌ أخرى أكبر من الفوز ذاته، ولكنني لم أستطِع تحديدَها في سكرةِ الاهتمام والالتهاء بالفوز نفسه، وكان سؤال زميلي هو الذي أيقظني من سبات نومي وغفلتي عن تلك الغاية الأكبر، التي يبدو أنها البحث عن المعنى من وجودي وقيمتي في هذه الحياة. في هذه السنة قرّرت أن أهجرَ أندية الخطابة وخوضَ المسابقات التي كان هدفها لا يتجاوز نفسي وأنانيتي، وأن أستخدم المهارات التي اكتسبتُها من تلك الأندية والمنافسات لكي أنفعَ الناس، وقدمتُ برنامجا بعنوان «إشراقة فضائية» من ثلاثين حلقة، لنشر الوعي والمعرفة، حقّق لي معنًى طالما افتقدتُه ولم أهتدِ إليه. وباختصارٍ شديد، لقد تعلّمتُ شيئا مهما جدا في هذه الحياة، في كل مرة أجد نفسي راغبا بقوة في تحقيق شيء وساعيا له بكل حماس، وباذلا مهجتي ونفسي فيه، تعلّمت أن أسأل نفسي هذا السؤال «طيّب.. لو حقّقتُ هذا الشيء وبعدين؟» مثل هذا السؤال فقط هو الذي ينقذنا من الضلال عن الغاية والافتتان بالوسيلة، ويوقظنا دائما إلى الغاية الأكبر والمعنى الحقيقي.
مشاركة :