المثقف الحقيقي هو الذي يستطيع أن يبني آراءه ويحمل مشروعه ومواقفه بعيدًا عن كل التأثيرات الجانبية التي تحيط به، وأعني بتلك التأثيرات الجانبية تلك التي تجبره على الانحياز في صفها أو تجبره على تبعيتها مهما كلف الأمر. ومن هنا ندرك أن ثمة مثقفًا آخر يهمه أن يكون ميالًا ومنجذبًا لتلك التأثيرات، ويبني موقفه على تبعية السلطة ومفاهيمها ومواقفها، وهذا ما نستطيع أن نسميه بـ«مثقف السلطة» وهذا بحد ذاته يعد خيانة لمواقفه في الكتابة والتأليف والنشر، فكثير من الأنظمة العربية تحاول أن تستجمع أكبر قدر ممكن من كُتَّاب الرأي في بلادها للوقوف بجانب السلطة السياسية، وبناء مواقف إيجابية نحوها، وهذا مما لا يرضيه القارئ المثالي الذي يريد أن يكون موقف الكاتب منه موقفًا حياديًا لا تبعية فيه أو انجرار نحو السلطة وإعلامها. وبطبيعة الحال، فإن المثقف الذي يتبع ما يملى عليه من السلطة وعملائها فإنه – أي هذا المثقف – يعد شاذًا عن سرب المثقفين الحقيقيين، وربما يختفي دوره كليًا بمجرد الكشف عن هويته وحقيقة ما يكتبه وما يتلفظ به في وسائل الإعلام، فقد أصبح القارئ المثالي – إن صح التعبير – قادرًا على التمييز بين موقف ورأي الكاتب الحقيقي، وبين موقفه المدمج مع آراء السلطة. إن تحويل المثقفين إلى أبواق تردد ما يملى عليها من النظام السياسي يعد كارثة نعيشها الآن في ظل المعارك الكلامية والإعلامية التي تدور في الأوساط العربية، والمطلع على المشهد العربي يلاحظ – بما لا يدع مجالًا للشك – فئة من المثقفين انحازوا إلى مواقف السلطة دون الإيمان بها، متناسيًا دوره كمثقف من المفترض به أن ينطلق من مظلة رأيه وموقفه الشخصي، لا أن يستسلم لمغريات السلطة وتداعياتها.
مشاركة :