ربما هي عواطف مقتبل العمر، ومعقولية أيام الشباب، التي كانت تمنحنا يقينا بصواب حكمنا على الأشياء، وأحقيتنا المتوهمة في تقويمها، واستخلاص النتائج منها، ثم تصنيف الأشياء بناء على ذلك. أذكر أنني كنت أنطلق في تقويمي للأشخاص من نقطة مواقفهم تجاه القضايا الكبرى، والمبادئ التي كنت أعتبرها صوابا مطلقا، وكان المُقوَم يرتفع على المقياس الذي وضعته، أو ينخفض، حسب تبنيه لتلك القضايا والمبادئ أو كفره بها. فوفقا لذلك المقياس في تلك الأيام، لم أستطع تخيل شخصٍ سويٍ لا يؤمن بقضية الهنود الحمر مثلا، وعدالة مطالبهم، وبشاعة الظلم الذي تعرضوا له، كما لم يكن من الممكن لي تخيل وجود إنسانٍ صالح لا يتنفس شعارات الحرية، والكرامة، والنضال، ومقاومة الاستكبار العالمي، كان ذلك قبل سنواتٍ من الآن. كنت أبدأ من المكان الخطأ، حيث لا يمكن للأمر أن يستقيم، أن أنطلق من قضايا البشرية الكبرى لمعرفة ماهية شخصٍ بسيطٍ ووضعه على –ما كنت أعتقده- ميزان الصواب والخطأ، تلك كانت أوهاما ليس لها ما يبررها. ما الذي تغير بعد أن قطعنا شوطا في رحلة العمر؟ وشابت النواصي والأحلام، وأصبحت تلك القضايا الكبرى، أخف في الميزان من تفصيلٍ صغير يمس حياة الإنسان بشكلٍ مباشر، وأصبح إيمان الآخر بتفاصيلنا الشخصية أهم لدي ألف مرةٍ من إيمانه بقضايا الكون الكبرى، وأصبح تفاعله مع ما يمسنا مقدما عندنا على تفاعله مع المبادئ المطلقة. ربما كانت هذه النتيجة هي الثمر الحقيقي لغرس السنوات وتعاقب أطوارها، وقد أصبحت أكثر ثقة أنّ الإنسان يجب أن ينطلق في حكمه على الأشخاص من التفاصيل الصغيرة الخاصة بهم، وسيكتشف أنّ نقطة الانطلاق هذه ستأخذه إلى مواطنٍ أكثر رحابة مما كان يظن، كما سيتيقن أنّ حكمه الذي يوصله إليه هذا الطريق أقرب للإنسانية والعدالة من سواه. التفاصيل الصغيرة المستترة في تعامل الإنسان مع محيطه الأولي البسيط، هي ما يشكل حقيقته وجوهره، تعامله مع أسرته، أو في دائرة العمل، أو في الدوائر الاجتماعية المتداخلة، هي ما يمكن لها أن تنتج الشكل النهائي للفرد. كثيرٌ من المنشغلين بالقضايا الكبرى أضاعوا أعمارهم فيما لا ينفعهم، وكثيرٌ من هذا الكثير أقل إنسانية وعدالة وشرفا من البسطاء الكادحين، الذين لم يجدوا وقتا أو ضرورة للانشغال بتلك القضايا الكبرى، إذا نظرنا حولنا بتمعن، سنكتشف كم أضعنا من أوقاتنا في مثل تلك السخافات.
مشاركة :