في منتصف الثمانينيات الميلادية في «أبها» وحين كنت طالبا في المرحلة الثانوية، أولعت بسلسلة من المقالات ينشرها ملحق الأربعاء في صحيفة المدينة آنذاك، تحت عنوان «حارة الأغوات» راقتني تلك الصور الأدبية التي تصف حارات المدينة المنورة وشخصياتها، أعلامها وبسطاءها، عبقها وأجواءها الروحانية، في جوار الحبيب -عليه الصلاة والسلام- وجذبني إليها، حتى كأني أعيشها لحظة بلحظة. ذاك الأسلوب الرصين المحبب الذي كان يمتاز به قلم أستاذنا الراحل، أبينا الذي فقدناه يوم السبت من العشر الأواخر من رمضان «عاصم حمدان» وإني حين أكتب عنه هذه الشذرات اليسيرة لن أفيه بعضا مما له من حق عليّ وعلى جيل كامل تتلمذ عليه، ونهل من صفاته، وأدرك معنى أن يكون المرء أستاذا ومربيا مؤثرا. وتدور عجلة الزمن، لأجدني طالبا في قسم اللغة العربية بجامعة الملك عبدالعزيز، أجلس منتظرا أستاذ المادة، وما هي إلا لحظات حتى يدلف إلى القاعة رجل مهيب الإطلالة، وقور، عليه سمت الأنقياء الصالحين، يلقي التحية في هدوء ومحبة وصفاء، حينها رأيت بأم العين الأديب الذي همت بحروفه، وجال بي بيانه، وأحاطتني صوره ومشاهده، في حارة «الأغوات» ثم حارة «المناخة» ثم بعدها أشجان الشامية، وذكريات الحصوة، وغيرها من المؤلفات، ناهيك عن عموده الأسبوعي في صحيفة المدينة، الذي كنت أشرف بإيصاله إلى مقرّ الجريدة حين يكلفني بذلك. نهلنا مما أفاض الله به عليه، علما وبحثا في مواد الأدب والنقد والمذاهب الأدبية، وهذه الأخيرة كانت سببا في توطيد علاقتي به، حين رأى انغماسي في البحث، وولعي بالكتب، فما كان منه إلا أن شفع لي عند رئيس تحرير «المدينة» المكلف حينها عبدالله العُمري، لأعمل متعاونا في قسم التدقيق اللغوي، وقد كان، فهو صاحب الفضل بعد الله في ولوجي بلاط الصحافة أوائل التسعينيات وحتى يومنا هذا. الحديث عن «عاصم حمدان» يتشعب، أنتَ في حضرة رجل مدنيّ مكيّ في آن، أحبّ الحجاز وأحبه، كتب تاريخه، وترجم لأعلامه، هام في أمكنته وزواياه وبيوتاته العريقة، خدم العلم والأدب، برع في المقالة السياسية والاجتماعية، كانت له صولات وجولات إبان معترك الحداثة والأصالة، عشناها عن كثب، في نادي جدة الأدبي، وعلى صفحات الصحف والملحقات الأدبية والمجلات المعنية. قبل دخول شهر رمضان الحالي هاتفته، كان صوته متعبا، وكانت جملته الأبوية تلامس قلبي «ادع لي يا ولدي» فها نحن يا سيدي، ندعو لك بقلوب كلَمَها فقدُك، وأرواحٍ أوجعَها رحيلُك، ونفوس راعها نأيك، بأن يجزيك الله عنا خير الجزاء، وأن يسكنك الفردوس الأعلى مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا إنه سميع مجيب.
مشاركة :