يعرف كنعان مكية وهو كاتب من أصل عراقي أن أحدا من الشعب العراقي لن يقبل اعتذاره فيما لو أراد الاعتذار عن مساهمته في التبشير بالغزو الأميركي (آذار/نيسان عام 2003) وأن جملته التي شبه من خلالها قصف بغداد بالعزف السيمفوني لا يمكن أن تُنسى لذلك فإنه حين رأى بعد سنوات نتائج ذلك الغزو المرعبة اكتفى بالاعتذار لنفسه مما الحقه بها من عار. لقد خذله خياله حين جعله غير قادر على التفريق بين انفجارات القنابل المحملة بشتى أنواع المواد المحرمة وطبول الملائكة التي تستقبل المبشرين بالجنة. ألم يعتقد أنه ذاهب إلى الجنة حين قرر أن يستولي على ذاكرة العراقيين كما لو أنه يخط بالإبرة سطرا على جبهة جلجامش؟ أنا على يقين أنه كان يومها يفكر في الخلود. لم ير شعبا تخترق ليله صفارات الانذار التي يعرف أنها ليست سوى نفايات موسيقية لم يعد تلقي أوامرها ينفع في حرب كونية لم تقع على الأرض إلا مجازا. كان ذلك الشعب الذي اُلقي به في الجحيم قد تلقى تمارين مذلة ومضجرة ومقرفة ومهينة على الفقر والفاقة والحرمان والعزل والظلم عبر ثلاثة عشر سنة هي عمر ذلك الصندوق الأسود الذي تم اغلاقه على لغز كاذب اسمه صدام حسين فيما كان الرجل المقصود الذي كان عنوانا عالميا للشر وهدفا له يقضي أوقاته في صيد السمك. كان مكية يعتقد أنه تمكن أخيرا من وضع صدام حسين في القفص. ولكن إذا كان لذلك الهدف ما يبرره فماذا عن التكلفة التي دفعها الشعب؟ تقبض على الحشرة التي أزعجتك بعد أن تحرق الغابة كلها. تبيد أمة من أجل أن تسخر من عدوك وهو في أضعف حالاته. ثم مَن قال أن صدام حسين لم ينتصر في النهاية وأنه مات مهزوما في تلك الحرب غير المتكافئة؟ سيكون علينا أن نفكر بشبح صدام حسين الذي ينتظر في كل منعطف من منعطفات التاريخ. كان الرجل أكثر ذكاء من كل خصومه حين قرر أن يموت بطلا. لقد وهبوه فرصة أن لا يرتكب خطأً. هذه هي المرة الوحيدة في حياته التي لم يرتكب فيها خطأً. ذكرني الفيلم الوثائقي الفرنسي "تدمير أمة" بالأرض العراقية، ما عليها وما تحتها. ما أمامها وما خلفها. ما جرى لها وما ينتظرها. ما يُحيط بها من أفاع وسحالي ويمتزج بخيالها الريفي من وحوش وشياطين. لقد أُعتبرت أمة ميتة. أمة ستُعاد إلى الحياة بطريقة اصطناعية. مدوا لها أنابيب التنفس والتغذية بطريقة انتقائية وجهزوا غرف التشريح وأعدوا قبورا متحركة لم تكن لتدخل في حسابات الربح والخسارة بالنسبة لما سُمي بالمنتصرين فالمهزومون لا أحد يراهم حين يتعذبون وتُنتهك إنسانيتهم ويموتون. لقد دفن العراقيون أحبابهم في الحدائق المنزلية. دفنوهم من غير أن يصلوا عليهم وفي غفلة من الزمن. لن يتعرفوا على ذلك الطيار الذي سيقول بعد ثمانية عشر سنة عما قام به في تلك الحرب "إن القصف هو أكبر عملية العاب نارية في كل ما شاهدته في حياتي". ذلك يسمع سمفونية خالدة وهذا يرى العابا نارية نادرة. ولكن الفرق بين الاثنين أن الأول كان يفكر في السطو على الذاكرة العراقية بأصابع جراح ويدير ظهره للموتى والجرحى والمشردين والنازحين والمعاقين والنواح الصامت واليتامى والارامل والخرائب والحرائق. اما الثاني فإنه مجرد اداة أنيقة. شاب خرج من بيته ليمارس العابا الكترونية. يضغط على زر وليس عليه أن يفكر بالبيوت التي تسقط أسقفها على ساكنيها وبأعداد الموتى والجرحى والمعاقين والمشردين. ينظر إلى السماء ولا يرى ما الذي يقع على الأرض. وفي النهاية فإنه اجنبي. مستشرق من نوع جديد. في حقيقة ما جرى قبل حوالي عقدين أن عراقيين لعبوا بعراقيين كما لو أنهم دمى تُسلخ وتُشوى وتذوب ويعاد استنساخها حسب الطلب. كانت الجريمة المحلية، الأهلية والعائلية أكبر وأشد هولا من الجريمة العالمية. الغطاء المحلي على الجريمة كان أقسى من الجريمة نفسها. لا تزال المتاهة حتى اليوم تبتكر المزيد من دروبها التي لن تقود إلى خلاص. فكرة الاحتلال الاجنبي ستكون أكثر رحمة وأقل تكلفة مما يمكن أن يُسمى بالاحتلال المحلي وهو ما يتجسد من خلال هيمنة الأحزاب والميليشيات المتحالفة في ما بينها من أجل الهيمنة على السلطة. سلطة هي فتات المحتل. ذلك وضع رث ومزري وكئيب ونتيجة لا يقبل بها إلا الحمقى والمجانين ولكن تغييره ليس بالأمر الهين واليسير. فما لم تتفق القوى الأجنبية التي تضاربت مصالحها في العراق على حل يضع الشعب في الموقع الذي يُرى من خلاله سيستمر التدمير الذاتي قائما وبضراوة. لقد ارتكبت في العراق جرائم ضد الإنسانية من الممكن أن تجر دولا إلى محكمة العدل الدولية ولكن تغييب الشعب العراقي عن المشهد كان يحول دون أن تقوم العدالة بدورها. لقد تم تدمير العراق وشعبه وبنيته التحتية بل وتاريخه ودولته ومصانعه وغذاءه وثقافته وكرامته وسيادته وحدوده وأملاكه وكل ما يمكن أن يعيده إلى الوجود دولة مستقلة بشعب حر كريم. ذلك لأن المحتل الأميركي بعد كل ما فعلته طائراته وجنوده وشركاته الأمنية فرض على العراق نظام محاصصة طائفية وحزبية هو عبارة عن لغم حرب أهلية لن يكون من اليسير إزالته إلا بثورة شعبية ستكون تكلفتها البشرية عظيمة. ليس هناك من يدفع تلك التكلفة بعد أن تم تدمير أمة بإتقان علمي لم تكشف حتى اللحظة أسراره.
مشاركة :