على جانبي الدرب الموصل بين «باب زويلة» و«باب الخلق»، يفترش باعة فوانيس رمضان وصانعوها شارع «تحت الربع»، بحي الدرب الأحمر. ومن «تحت الربع» يمتد وصال تلك الفروشات الصغيرة، والشوادر الضخمة، والورش، لكافة الأزقة والحارات المجاورة. هنا، يمتزج عبق التاريخ بالتراث والفلكلور الشعبي، فتجد الشوادر والفروشات وحتى الورش مكانها أمام وجوار المباني التاريخية، بشكل لا يحجب الرؤية عنها، إنما يتناغم معها ليكون «بورتريه فني» متكامل الأركان، إن جاز التعبير، تبرز خلاله ملامح عدة من الهوية المصرية في آنٍ واحد. وفي أحد شوادر بيع الفوانيس االموجودة بـ«تحت الربع»، -والتي يبدأ معظمها الاستعدادات لاستقبال موسم «شهر الخير»، مع اليوم المتمم لجمادى الاخرة، أو قبل هذا الموعد بقليل، لتكون على أهبة الاستعداد لاستقبال الزبائن، الذين لا يتوافدون عادةً إلا قبل أيام معدودة من حلول هلال شهر رمضان الكريم، وقفت «أسماء»، بصحبة شقيقتيها «دنيا» و«ياسمين»- يرتبن بضائعهن لتبدو في أبهى صورها أمام أعين المارة، والذين جاؤوا لنفس الغرض وإن اختلف شكل الطلب. يزخر الشادر المملوك في الأساس لوالد الفتيات الثلاث، محمد يسري، بفوانيس من كافة الأحجام والأشكال، وبفضل تلك التشكيلة يضمن «يسري» أن تلبي بضائعه طلبات زبائنه، سواء جاؤوا لإدخال البهجة على أطفالهم، أو جاؤوا ليبحثوا عن العنصر الأساسي لروحانيات رمضان. تتولى كل واحدة من الفتيات الثلاث مسؤولية نوعية معينة من البضائع الموجودة بالشادر، لكن سرعان ما ينقض هذا العهد المبرم بينهما في اللحظات الأولى لتسلمهن زمام العمل من والدهن، بسبب «ضغط الشغل» على حد قول «أسماء». ما سبق، تعتبره «أسماء» أصعب المشكلات التي تواجها وشقيقتيها على مدار اليوم، والتي ترجع أسبابها لـ«نقص خبرتهن في التنسيق فيما بينهن خلال التعامل مع الزبائن لكونها السنة الأولى التي يتطوعوا فيها لمساعدة والدهما في الشادر». وفيما عدا ذلك، لا شيء يمكن أن ينغص على الفتيات الثلاث ساعات عملهم داخل الشادر في غياب والدهما، والذي يكون خلال تلك الأثناء في نوم عميق عقب حلوله محلهما منذ أطراف النهار وحتى آخر الليل. حديث «دنيا»، الشقيقة الأصغر لـ«أسماء»، يؤكد على ما سبق، إذ تفوهت بنبرة واثقة: «وقفتنا في الشارع كانت شيء جديد علينا إحنا مش متعودين عليه، بس مترددناش أبدًا إن إحنا نوافق لما بابا عرض علينا». تردف «دنيا»، لـ «المصري لايت»: «كنا لازم نثبت لبابا إن إحنا سنده اللي يقدر يميل عليه بقلب جامد لحد ما إخواتي الولاد يكبروا، ومرهبناش فكرة إن إحنا بنات وهنقف في السوق، طالما مخلين بالنا من نفسنا إيه اللي يمنع!». ساعات العمل عند «دنيا» وشقيقتها في الشادر تبدأ منذ شروق الشمس حتى غروبها، تصل الواحدة منهن تلو الآخرى في أوقات متفرقة خلال الساعات الآولى من الصباح، يرحل والدهما لأخذ قسطًا من الراحة بمجرد أن تهل عليه من تصله أولًا، والتي غالبًا ما تكون «ياسمين». تمثل «ياسمين» لشقيقتيها -اللتان يكبرونها في السن- الفلك، الذي يسبحون حوله في الشادر، فوجودها يعطيهما الأمان على رغم من أنها أصغرهما سنًا، إلا أنها أكثرهما خبرة في حركة التجارة والبيع في الشادر. اكتسبت «ياسمين» تلك الخبرة، بفضل وجودها في الشادر قبل فترة من اللتحاق شقيقتيها بها في سوق العمل، وذلك بسبب انشغالهما لأداء امتحانات نصف العام الدراسي المنقضي، بكليتي دار العلوم والإعلام، حيث تدرس «أسماء» و«دنيا»، في حين لم يأت موعد اختبارات مرحلتها الدراسية بعد، والذي تبدأ في يوليو المقبل، بحسب الموعد المعلن لعقد امتحانات الثانوية العامة. وعلى النقيض من حداثة الفتيات الثلاث في سوق الفانوس، إلا أن الأمر نفسه لا ينطبق على خبرتهما في صناعته، والتي لهما باع طويل فيها، اكتسبوها على مر السنوات السابقة، بحكم تصنيع والدهما لـ«الفانوس الاسترس» في المنزل، قبل عدة أشهر من حلول رمضان من كل عام. وعلى هذه الشاكلة، انتقلت سر مهنة صناعة الفانوس من «يسري» لكافة أفراد عائلته، وزاد بفضل ذلك حجم إنتاجه من الفانوس الذي تعتبره «أسماء»، أن أسرتها هي الوحيدة المتفردة في صناعته. يبدأ الاستعداد لموسم «شهر الخير» داخل منزل «يسري» قبل ما يزيد عن أربعة أشهر من حلول هلال رمضان، يجلب رب الأسرة في باديء الأمرالهيكل الصاج للفانوس من الورش المتخصصة القريبة من محل إقامتهما بالدرب الأحمر، ومن ثم تتولى أفراد الأسرة باقية مراحل التصنيع الأخرى، والتي تبدأ بتلميع الهيكل الصاج، ثم لصق الاسترس، وترصع بعدها أجزاء معينة منه بالخرز، قبل أن يتم تركيب أسطوانة الأغاني الصغيرة بداخله، ليعبأ بعدها في الأكياس البلاستيكية، ومنه إلى الشادر، ليطرح للبيع على الجمهور. تجد أسرة «يسري» في صناعة الفانوس فرصة تجمعها لقضاء وقت أطول بصحبة بعضهما البعض، يضربوا من خلاله «عصفورين بحجر واحد» على حد وصف «أسماء»، والتي تفسر ما سبق، قائلة: «الفانوس اللي بنصنعه قبل رمضان بيلمنا كلنا سوا حوله وده بيبقى صعب يحصل في باقية أوقات السنة لمشاغلنا الكتيرة، ومنه كمان بنستفيد بربحه بعد بيعه». درجة التمكن في صناعة الفانوس التي وصلت لها كل أفراد أسرة «يسري» في الوقت الحالي لم تكن بمحض الصدفة، بل تحقق ذلك على مراحل بحسب ما تكشفه الابنة البكر لـ«يسري»: «في الأول من حوالي خمس سنين كنا بنشتغل ببطأ أوي علشان كنا لسه مش متمكنين، وكنا لازم نلتزم بشكل الموديل اللي قصادنا، لكن دلوقتي الفانوس مياخدش في إيدينا 10 دقائق وحتى الشكل والتصميمات بقى كله من دماغنا إحنا». بالرغم من أن شادر «يسري» يزخر بكل أنواع الفوانيس المختلفة على اختلاف حجمها وشكلها، لكن يظل لهذا الفانوس مكانته الخاصة في نفوس أفراد الأسرة بالكامل، وذلك بحسب حديث «أسماء»، والتي تصف شعورها حيال ذلك، قائلة: «ببقى فخورة لما أشوف تهافت الزبائن على الفانوس اللي إحنا صناعنا بإيدينا، وبفرح أكتر لما الزبون يعجبه جودته، الفانوس ده مصنوع بحب عشان كده بيوصل لقلب الناس أسرع من غيره».
مشاركة :