إذا حاول جو بايدن الحد من أنظمة كوريا الشمالية بعيدة المدى، فقد يطالب الرئيس الكوري في المقابل بالحد من الدفاعات الصاروخية الأميركية المُصمّمة لحماية الحلفاء أو حتى الأراضي الأميركية، وقد يدعو إلى فرض ضوابط معينة على نشر الطائرات ذات القدرات النووية والصواريخ والسفن الأميركية في المنطقة. تأتي الاختبارات الصاروخية التي أطلقتها كوريا الشمالية حديثاً لتذكّرنا بأن الرئيس الأميركي جو بايدن لا يواجه مشكلة مستعصية أسوأ من كيم جونغ أون في مجال السياسة الخارجية، علماً أن أسلاف بايدن جرّبوا جميع المقاربات الممكنة للتعامل مع كوريا الشمالية باستثناء الحرب. فعلى مر السنين، عمد الرؤساء الأميركيون المتلاحقون إلى تشديد العقوبات تدريجياً، فضلاً عن إصدار عدد من القرارات في مجلس الأمن تزامناً مع إبقاء المجال مفتوحاً أمام الجهود الدبلوماسية، علماً أن الرئيس السابق دونالد ترامب صعّد تهديداته باللجوء إلى التحركات العسكرية وكثّف خطاباته النارية، ثم حاول إقناع كيم بالتخلي عن أسلحته النووية خلال ثلاث قمم رفيعة المستوى في عامَي 2018 و2019 لكنه لم ينجح في مساعيه. في خضم هذه التطورات كلها، تابعت كوريا الشمالية إنتاج الأسلحة النووية بوتيرة متسارعة، وتتفاوت التقديرات في هذا المجال، علماً أن البلد ينتج كمية كافية من المواد الانشطارية لتصنيع 12 سلاحاً جديداً كل سنة، وربما يملك الآن ما يكفي من المعدات لإنتاج 60 سلاحاً على الأقل. وإضافة إلى الصواريخ التي تكون قصيرة ومتوسطة المدى وتستطيع استهداف اليابان وكوريا الجنوبية، تنتج كوريا الشمالية أيضاً صواريخ قادرة على بلوغ جميع الأراضي الأميركية، ولم تتقن بيونغ يانغ على الأرجح هذه التقنية بعد، لكن لا يستطيع الأميركيون أن يفترضوا اليوم أنهم ما زالوا بمنأى عن الضربات النووية الكورية الشمالية. وتعمل بيونغ يانغ أيضاً على إنتاج صواريخ سريعة الانطلاق ولا يمكن رصدها بسهولة ومن الأصعب أن تردعها الدفاعات بالصواريخ البالستية. ويمكن القول، إن إطلاق ضربة استباقية ضد كوريا الشمالية سيكون نهجاً مريعاً، ومن المستبعد أن تقضي أي ضربة مماثلة على ترسانة بيونغ يانغ كلها، لكنها قد تؤجج حرباً إقليمية أو حتى نووية. في المقابل، قد يكون عدم التحرك وسط استمرار العقوبات وتداعياتها، أي التمسك بسياسة الاحتواء، خياراً أكثر أماناً من الحرب أو الدبلوماسية، لكنه قد يسمح لكوريا الشمالية بتوسيع برامجها النووية والصاروخية. تستطيع إدارة بايدن أن تلجأ إلى طريقة أخرى للتعامل مع كوريا الشمالية، فتستكشف مثلاً استراتيجية ذات نطاق أصغر، وتوقف محاولات إقناع كيم بالتخلي عن جميع أسلحته، وتسعى إلى إبطاء نمو أسلحة الدمار الشامل التي يملكها وتقليص مخاطر الحرب. بعبارة أخرى، تستطيع واشنطن أن تحاول تجميد قدرات كوريا الشمالية أو تقليصها جزئياً، تزامناً مع تخفيف الاضطرابات القائمة، بدل التخلص من ترسانة كيم النووية بالكامل. أي يجب ألا تتخلى الولايات المتحدة عن طموح نزع الأسلحة النووية على المدى الطويل، لكن يمكنها أن تحاول في هذه الفترة عقد صفقة أكثر واقعية وتمنع تفاقم التهديدات المطروحة. ويجب أن تختبر واشنطن مدى فاعلية تطبيق مقاربة محصورة للحد من التسلح، لن يكون نجاح هذه الاستراتيجية مضموناً، حتى أن احتمال الفشل كبير. لكن يبقى هذا الاحتمال أفضل من جميع الخيارات الأخرى في هذه المرحلة، مادامت إدارة بايدن توضح ما تتوقع تحقيقه، وسيكون أي اتفاق فاعل للحد من التسلح وتقليص التهديدات التي تطرحها الأسلحة النووية الكورية الشمالية، من دون التأثير على أمن اليابان أو كوريا الجنوبية، تقدماً بارزاً في مسار المواجهة القائمة اليوم، لكنّ أي اتفاق شائب سيكون أسوأ من المراوحة الراهنة. الحفاظ على الحلفاء إذا قررت إدارة بايدن متابعة التفاوض حول الحد من التسلح مع كوريا الشمالية، فيجب أن تبذل قصارى جهدها للحفاظ على نوعٍ من التناغم بين اليابان وكوريا الجنوبية، أهم حليفتَين لواشنطن في تلك المنطقة. ومن المتوقع أن يقلق اليابانيون وبعض المسؤولين في كوريا الجنوبية من احتمال أن تؤدي أي صفقة محدودة بشأن الصواريخ بعيدة المدى إلى ترسيخ مكانة كوريا الشمالية بين القوى النووية بشكلٍ دائم ومتابعة تطوير القدرات قصيرة المدى التي تُضعِف موقع البلدَين. ستتفاقم تلك المخاوف حتماً إذا طالب كيم بتعديل القدرات الأميركية وإمكانات الجيوش الحليفة وتخفيف نقاط ضعف كوريا الشمالية مقابل إبقاء اليابان وكوريا الجنوبية عرضة لهجوم بيونغ يانغ. إذا حاول بايدن مثلاً الحد من أنظمة كوريا الشمالية بعيدة المدى، قد يطالب كيم في المقابل بالحد من الدفاعات الصاروخية الأميركية المُصمّمة لحماية الحلفاء أو حتى الأراضي الأميركية، وقد يدعو إلى فرض ضوابط معينة على نشر الطائرات ذات القدرات النووية والصواريخ والسفن الأميركية في المنطقة، أو كبح برنامج كوريا الجنوبية الصاروخي الناشئ، أو استراتيجية «سلسلة القتل» التي تدعو إلى إطلاق ضربات استباقية ضد المدفعيات والصواريخ الكورية الشمالية عند توقّع هجوم وشيك. تتماشى هذه المطالب مع استراتيجية كوريا الشمالية القديمة التي تقضي باستغلال المحادثات كي يعترف بها المجتمع الدولي كقوة نووية ويتوسع الشرخ بين الولايات المتحدة وحلفائها. لهذا السبب، يجب أن يقيّم بايدن الآثار المحتملة للمفاوضات على نظام الردع، ويضمن موافقة حلفاء واشنطن على أي تنازلات مطلوبة، ويتأكد من استعداد كوريا الشمالية لاتخاذ تحركات متكافئة ويسهل التحقق منها. كذلك، يجب أن يحلل بايدن تأثير هذه التحركات على سياسته تجاه الصين والعكس صحيح. من المتوقع مثلاً أن تزيد صعوبة المحادثات حول الحد من التسلح مع كوريا الشمالية نتيجة نشر أنظمة صاروخية أميركية متوسطة المدى في المنطقة بهدف ردع الصين. لكن لا يتعلق أكبر عائق أمام عقد اتفاق مع كوريا الشمالية بمخاوف الحلفاء بل بإصرار بيونغ يانغ على رفض عمليات التحقق من نشاطاتها. رغم صعوبة التوصل إلى اتفاق مع كوريا الشمالية في الحالات العادية، أثبتت التجارب التاريخية في مناسبات متكررة أن فرض اتفاق مماثل سيكون أكثر صعوبة، إذ ترفض كوريا الشمالية بشكلٍ قاطع أي نوع من تدابير التحقق المفرطة، لاسيما اللجوء إلى مفتشين دوليين، لأنها تخشى أن تسمح هذه الخطوة للولايات المتحدة بتحديد مواقع منشآتها النووية استعداداً لضربة عسكرية. سمحت بيونغ يانغ للمفتشين الدوليين بزيارة منشأة «يونغبيون» بعد توقيعها على اتفاق إطاري لوقف إنتاج البلوتونيوم مع إدارة الرئيس بيل كلينتون في عام 1994، لكن انهار ذلك الاتفاق بعد مرور ثماني سنوات، عندما اكتشفت الولايات المتحدة أن كوريا الشمالية تُخصّب اليورانيوم سراً. ثم فشلت إدارة الرئيس جورج بوش الابن في محاولة رسم حدود جديدة لبرنامج كوريا الشمالية النووي بين عامي 2005 و2007 لأن الطرفَين عجزا عن عقد اتفاق حول التحقق من العمليات الحاصلة في بيونغ يانغ. كي تتوصل إدارة بايدن إلى اتفاق حقيقي يوافق عليه الكونغرس والجمهوريون، يجب أن تكون عملية التحقق متينة. وبفضل الاتفاق النووي الإيراني المبرم في عام 2015، خضعت منشآت نووية إيرانية أساسية لمراقبة متواصلة وتمكن المفتشون الدوليون من الوصول إلى أي مواقع غير معلنة. لكن الجمهوريين، وحتى عدد صغير من الديمقراطيين، انتقدوا ذلك الاتفاق باعتباره غير شفاف بما يكفي. في المقابل، لم توافق كوريا الشمالية يوماً على هذا المستوى من التفتيش. من الناحية التقنية، ستزيد سهولة هذه العملية إذا ركّز أي اتفاق محتمل على عدد معيّن من المواقع المرتبطة بدورة تأمين الوقود لأن المفتشين الدوليين مؤهلون للقيام بهذا النوع من المهام. لكن سيكون أي تدبير يشمل المنشآت المرتبطة بالرؤوس الحربية أو إنتاج الصواريخ أكثر تعقيداً. تستطيع الاستخبارات الأميركية أن تسدّ بعض الثغرات القائمة، لكن تبقى عمليات التفتيش الميدانية ضرورية. خيار يستحق التجربة قد تلقى مقاربة الحد من التسلح مصير الاستراتيجيات الأميركية الفاشلة الأخرى للتعامل مع كوريا الشمالية، لكن يُفترض أن تتمكن إدارة بايدن من اختبار مدى فاعليتها. كانت السنة الماضية من أصعب السنوات التي شهدتها كوريا الشمالية منذ المجاعة التي اجتاحت البلد خلال التسعينات. أدت التدابير التي اتخذها كيم لإنقاذ بلده من فيروس كورونا، بما في ذلك إغلاق الحدود مع الصين، إلى أضرار اقتصادية تفوق ما سبّبته العقوبات. لم يكن كيم يتأثر بسهولة بالضغوط الاقتصادية في الماضي، لكنه قد يتوق اليوم إلى التخلص من العقوبات ويثق بقدراته النووية والصاروخية الراهنة لدرجة أن يوافق على رسم بعض الحدود لبرنامج التسلح الكوري الشمالي مقابل تخفيف العقوبات. لن تخلو هذه الاستراتيجية من المخاطر، ولن يكون تقليص الأهداف التي تصبو إليها مقاربة الحد من التسلح كافياً لتسهيل هذا المسار. على عكس مساعي نزع الأسلحة النووية بالكامل، وهو هدف بعيد المنال، قد يفرض أي اتفاق محصور للحد من التسلح مقايضات صارمة على المدى القريب مقابل تحقيق أهداف أخرى من السياسة الأميركية. لكن نظراً إلى فشل المقاربات المعتمدة راهناً، يبقى الحد من التسلح خياراً يستحق التجربة على الأقل. مادام بايدن يمتنع عن تقديم تنازلات مبكرة بشأن العقوبات مقابل وعود فارغة من الجانب الكوري الشمالي، ستقتصر أسوأ نتيجة محتملة على عودة إدارته إلى نقطة البداية من نظام الاحتواء الراهن.
مشاركة :